التفاسير

< >
عرض

وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ
٢٥
-فصلت

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ }.
لعلماء التفسير في تفسير قوله: { وَقَيَّضْنَا } عبارات يرجع بعضها، في المعنى إلى بعض.
كقول بعضهم: { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ } أي جئناهم بهم: وأتحناهم لهم.
وكقول بعضهم: { وَقَيَّضْنَا } أي هيأنا.
وقول بعضهم: { وَقَيَّضْنَا } أي سلطنا.
وقول بعضهم: أي بعثنا ووكلنا.
وقول بعضهم: { وَقَيَّضْنَا } أي سببنا.
وقول بعضهم: قدرنا ونحو ذلك من العبارات، فإن جميع تلك العبارات راجع إلى شيء واحد، وهو أن الله تبارك وتعالى هيأ للكافرين قرناء من الشياطين يضلونهم عن الهدى ويزينون لهم الكفر والمعاصي وقدرهم عليهم.
والقرناء: جمع قرين وهم قرناؤهم من الشياطين على التحقيق.
وقوله { فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } أي من أمر الدنيا حتى آثروه على الآخرة: { وَمَا خَلْفَهُمْ } أي من أمر الآخرة، فدعوهم إلى التكذيب به، وإنكار البعث.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، أنه تعالى قيض للكفار قرناء من الشياطين، يضلونهم عن الهدى، بينه في مواضع أخر من كتابه.
وزاد في بعضها سبب تقييضهم لهم، وأنهم مع إضلالهم لهم، يظنون أنهم مهتدون، وأن الكافر يوم القيامة يتمنى أن يكون بينه وبين قرينه من الشياطين بعد عظيم، وأنه يذمه ذلك اليوم كما قال تعالى:
{ { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يٰلَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ ٱلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ } [الزخرف: 36ـ38].
فترتيبه قوله: نقيض له شيطاناً،على قوله ومن يعش عن ذكر الرحمن، ترتيب الجزاء على الشرط يدل على أن سبب تقييضه له، هو غفلته عن ذكر الرحمن.
ونظير ذلك قوله تعالى:
{ { مِن شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ } [الناس: 4] لأن الوسواس هو كثير الوسوسة ليضل بها الناس، والخناس هو كثير التأخر والرجوع عن إضلال الناس، من قولهم: خنس بالفتح يخنس بالضم إذا تأخر.
فهو وسواس عند الغفلة عن ذكر الرحمن، خناس عند ذكر الرحمن، كما دلت عليه آية الزخرف المذكورة، ودل عليه قوله تعالى:
{ { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [النحل: 99ـ100] لأن الذين يتولونه، والذين هم به مشركون، غافلون عن ذكر الرحمن، وبسبب ذلك قيضه الله لهم فأضلهم.
ومن الآيات الدالة على تقييض الشياطين للكفار ليضلوهم، قوله تعالى:
{ { أَنَّآ أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } [مريم: 83]، وقد أوضحنا الآيات الدالة على ذلك في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: { أَنَّآ أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } الآية. وبينا هناك أقوال أهل العلم في معنى { تَؤُزُّهُمْ أَزّاً }.
وبينا أيضاً هناك أن من الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى:
{ { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ ٱلْجِنِّ قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ ٱلإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ ٱلإِنْسِ } [الأنعام: 128] أي استكثرتم من إضلال الإنس في دار الدنيا، وقوله: { { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } [الأعراف: 202].
ومنها أيضاً قوله تعالى:
{ { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ } [يس: 60] إلى قوله: { { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً } [يس: 62] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد دل قوله في آية الزخرف:
{ { فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ } [الزخرف: 38] على أن قرناء الشياطين المذكورين في آية فصلت، وآية الزخرف وغيرهما، جديرين بالذم الشديد، وقد صرح تعالى بذلك في سورة النساء في قوله: { { وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً } [النساء: 38] لأن قوله: { فَسَآءَ قِرِيناً } بمعنى { فَبِئْسَ ٱلْقَرِينُ }، لأن كلا من ساء وبئس فعل جامد لإنشاء الذم كما ذكره في الخلاصة بقوله:

واجعل كبئس ساء واجعل فعلا من ذي ثلاثة كنعم مسجلا

واعلم أن الله تعالى بين أن الكفار الذين أضلهم قرناؤهم من الشياطين يظنون أنهم على هدى، فهم يحسبون أشد الضلال، أحسن الهدى، كما قال تعالى عنهم: { { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [الزخرف: 37] وقال تعالى: { { إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُوا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [الأعراف: 30].
وبين تعالى أنهم بسبب ذلك الظن الفاسد هم أخسر الناس أعمالاً في قوله تعالى:
{ { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [الكهف: 103ـ104].
وقوله تعالى في سورة الزخرف:
{ { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ } [الزخرف: 36] من قولهم عشا بالفتح عن الشيء، يعشو بالضم إذا ضعف بصره عن إدراكه، لأن الكافر أعمى القلب.
فبصيرته تضعف عن الاستنارة بذكر الرحمن، وبسبب ذلك يقيض الله له قرناء الشياطين.
قوله تعالى: { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ } الآية.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يس في الكلام على قوله تعالى:
{ { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ } [يس: 7] الآية.