التفاسير

< >
عرض

وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ
٤٨
-فصلت

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ }.
الظن هنا بمعنى اليقين، لأن الكفار يوم القيامة إذا عاينوا العذاب، وشاهدوا الحقائق، علموا في ذلك الوقت أنهم ليس لهم من محيص، أي ليس لهم مفر ولا ملجأ.
والظاهر أن المحيص مصدر ميمي، من حاص يحيص بمعنى حاد وعدل وهرب.
وما ذكرنا من أن الظن في هذه الآية الكريمة بمعنى اليقين والعلم، هو التحقيق إن شاء الله، لأن يوم القيامة تنكشف فيه الحقائق، فيحصل للكفار العلم بها لا يخالجهم في ذلك شك، كما قال تعالى عنهم، إنهم يقولون يوم القيامة
{ { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } [السجدة: 12]. وقال تعالى: { { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [مريم: 38]. وقال تعالى: { { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق: 22]. وقال تعالى: { { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَـٰذَا بِٱلْحَقِّ قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَا } [الأنعام: 30] وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة النمل في الكلام على قوله تعالى: { { بَلِ ٱدَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ } [النمل: 66] الآية.
ومعلوم أن الظن يطلق في لغة العرب، التي نزل بها القرآن على معنيين:
أحدهما: الشك كقوله
{ { إِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } [يونس: 36]، وقوله تعالى عن الكفار: { { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } [الجاثية: 32].
والثاني: هو إطلاق الظن مراداً به العلم واليقين، ومنه قوله تعالى هنا: { وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } [فصلت: 48] أي أيقنوا، أنهم ليس لهم يوم القيامة محيص، أي لا مفر ولا مهرب لهم من عذاب ربهم، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى:
{ { وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } [الكهف: 53] أي أيقنوا ذلك وعلموه، وقوله تعالى: { { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [البقرة: 46] وقوله تعالى: { { قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [البقرة: 249] وقوله تعالى: { { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } [الحاقة: 19ـ20]، فالظن في الآيات المذكورة كلها بمعنى اليقين.
ونظير ذلك من كلام العرب قول دريد بن الصمة:

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد

وقول عميرة بن طارق:

بأن تفتروا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيباً مرجما

والظن في البيتين المذكورين بمعنى اليقين، والفعل القلبي في الآية المذكورة التي هي قوله: { وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } [فصلت: 48] معلق عن العمل في المفعولين بسبب النفي بلفظة ما في قوله: { مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } كما أشار له في الخلاصة بقوله:
*والتزم التعليق قبل نفي "ما"*