التفاسير

< >
عرض

ذَلِكَ ٱلَّذِي يُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ
٢٣
-الشورى

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ }.
قد بينا في سورة هود في الكلام على قوله تعالى:
{ { وَيٰقَوْمِ لاۤ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً } [هود: 29] الآية. أن جميع الرسل عليهم الصلوات والسلام، لا يأخذون أجراً على التبليغ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك.
وقد ذكرنا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وجه الجمع بين تلك الآيات، وآية الشورى هذه فقلنا فيه:
اعلم أولاً أن في قوله تعالى { إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ } أربعة أقوال:
الأول: ورواه الشعبي وغيره عن ابن عباس وبه قال مجاهد وقتادة وعكرمة وأبو مالك والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم كما نقله عنهم ابن جرير وغيره، أن معنى الآية { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ } [الشورى: 23] أي إلا أن تودوني في قرابتي التي بيني وبينكم، فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى الناس، كما تمنعون كل من بينكم وبينه مثل قرابتي منكم، وكان صلى الله عليه وسلم له في كل بطن من قريش رحم، فهذا الذي سألهم ليس بأجر على التبليغ لأنه مبذول لكل أحد، لأن كل أحد يوده أهل قرابته وينتصرون له من أذى الناس.
وقد فعل له ذلك أبو طالب ولم يكن أجراً على التبليغ لأنه لم يؤمن.
وإذا كان لا يسأل أجراً إلا هذا الذي ليس بأجر تحقق أنه لا يسأل أجراً كقول النابغة:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب

ومثل هذا يسميه البلاغيون تأكيد المدح بما يشبه الذم.
وهذا القول هو الصحيح في الآية، واختاره ابن جرير، وعليه فلا إشكال.
الثاني: أن معنى الآية { إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ } [الشورى: 23] أي لا تؤذوا قرابتي وعترتي واحفظوني فيهم، ويروى هذا القول عن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وعلي بن الحسين، وعليه فلا إشكال أيضاً.
لأن المودة بين المسلمين واجبة فيما بينهم، وأحرى قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:
{ { وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [التوبة: 71] وفي الحديث "مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كالجسد الواحد إذا اصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" وقال صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" والأحاديث في مثل هذا كثيرة جداً.
وإذا كان نفس الدين يوجب هذا بين المسلمين، تبين أنه غير عوض عن التبليغ.
وقال بعض العلماء: الاستثناء منقطع على كلا القولين، وعليه فلا إشكال.
فمعناه على القول الأول { لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا } لكن أذكركم قرابتي فيكم.
وعلى الثاني: لكن أذكركم الله في قرابتي فاحفظوني فيهم.
القول الثالث: وبه قال الحسن إلا المودة في القربى أي إلا أن تتوددوا إلى الله وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح، وعليه فلا إشكال.
لأن التقرب إلى الله ليس أجراً على التبليغ.
القول الرابع: إلا المودة في القربى، أي إلا أن تتوددوا إلى قراباتكم وتصلوا أرحامكم، ذكر ابن جرير هذا القول عن عبد الله بن قاسم، وعليه أيضاً فلا إشكال.
لأن صلة الإنسان رحمه ليست أجراً على التبليغ، فقد علمت الصحيح في تفسير الآية وظهر لك رفع الإشكال على جميع الأقوال.
وأما القول بأن قوله تعالى: { إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ } [الشورى: 23] منسوخ بقوله تعالى:
{ { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُم } [سبأ: 47] فهو ضعيف، والعلم عند الله تعالى. انتهى منه.
وقد علمت مما ذكرنا فيه أن القول الأول هو الصحيح في معنى الآية.
مع أن كثيراً من الناس يظنون أن القول الثاني هو معنى الآية، فيحسبون أن معنى { إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ } إلا أن تودوني في أهل قرابتي.
وممن ظن ذلك محمد السَجَّاد حيث قال لقاتله يوم الجمل: أذكرك حم يعني سورة الشورى هذه، ومراده أنه من أهل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيلزم حفظه فيهم، لأن الله تعالى قال في حم هذه { إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ } [الشورى: 23] فهو يريد المعنى المذكور، يظنه هو المراد بالآية، ولذا قال قاتله في ذلك:

يُذّكِّرني حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ فَهَل لا تَلاَ حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ

وقد ذكرنا هذا البيت والأبيات التي قبله في أول سورة هود، وذكرنا أن البخاري ذكر البيت المذكور في سورة المؤمن، وذكرنا الخلاف في قائل الأبيات الذي قتل محمداً السجاد بين طلحة بن عبيد الله يوم الجمل، هل هو شريح بن أبي أوفَى العبسي كما قال البخاري، أو الأشتر النخعي، أو عصام بن مقشعر، أو مدلج بن كعب السعدي، أو كعب بن مدلج.
وممن ظن أن معنى الآية هو ما ظنه محمد السجاد المذكور الكميت في قوله في أهل قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وجدنا لكم في آل حاميم آية تأولها منا تقي ومعرب

والتحقيق إن شاء الله أن معنى الآية هو القول الأول { إِلاَّ ٱلْمَوَدَّةَ فِي ٱلْقُرْبَىٰ } أي إلا أن تودوني في قرابتي فيكم وتحفظوني فيها، فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى الناس، كما هو شأن أهل القرابات.
قوله تعالى: { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً }.
الاقتراف معناه الاكتساب، أي من يعمل حسنة من الحسنات، ويكتسبها نزد له فيها حسناً، أي نضاعفها له.
فمضاعفة الحسنات هي الزيادة في حسنها، وهذا المعنى توضحه آيات من كتاب الله تعالى كقوله تعالى
{ { وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } [النساء: 40] وقوله تعالى: { { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [الأنعام: 160] وقوله تعالى: { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [البقرة: 245] وقوله تعالى { { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَأَقْرِضُواُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } [المزمل: 20] فكونه خيراً وأعظم أجراً زيادة في حسنه، كما لا يخفى إلى غير ذلك من الآيات: