التفاسير

< >
عرض

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ
٧
-الشورى

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً }.
وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الشعراء في الكلام على قوله تعالى:
{ { لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [الشعراء: 194ـ195]، وفي الزمر في الكلام على قوله تعالى: { { قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } [الزمر: 28] وفي غير ذلك من المواضع.
قوله تعالى: { لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا }.
خص الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة إنذاره، صلى الله عليه وسلم بأم القرى ومن حولها، والمراد بأم القرى مكة حرسها الله.
ولكنه أوضح في آيات أخر أن إنذاره عام لجميع الثقلين كقوله تعالى:
{ { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [الأعراف: 158] وقوله تعالى: { { تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان: 1] وقوله تعالى: { { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ } [سبأ: 28] الآية. كما أوضحنا ذلك مراراً في هذا الكتاب المبارك.
وقد ذكرنا الجواب عن تخصيص أم القرى ومن حولها هنا وفي سورة الأنعام في قوله تعالى:
{ { وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ } [الأنعام: 92] الآية، في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، فقلنا فيه: والجواب من وجهين:
الأول: أن المراد بقوله:
{ { وَمَنْ حَوْلَهَا } [الأنعام: 92] شامل لجميع الأرض، كما رواه ابن جرير وغيره، عن ابن عباس.
الوجه الثاني: أنا لو سلمنا تسليماً جدلياً، أن قوله
{ { وَمَنْ حَوْلَهَا } [الأنعام: 92] لا يتناول إلا القريب من مكة المكرمة حرسها الله، كجزيرة العرب مثلاً، فإن الآيات الأخر، نصت على العموم كقوله { { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان: 1] وذكر بعض أفراد العام بحكم العام، لا يخصصه عند عامة العلماء، ولم يخالف فيه إلا أبو ثور.
وقد قدمنا ذلك واضحاً بأدلته في سورة المائدة، فالآية على هذا القول كقوله
{ { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214] فإنه لا يدل على عدم إنذار غيرهم، كما هو واضح. والعلم عند الله تعالى اهـ منه.
قوله تعالى: { وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيه }.
تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين:
أحدهما: أن من حكم إيحائه تعالى، إلى نبينا صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العربي، إنذار يوم الجمع، فقوله تعالى: { وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ } معطوف على قوله: { لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ } أي لا بد أن تنذر أم القرى وأن تنذر يوم الجمع فحذف في الأول، أحد المفعولين وحذف في الثاني أحدهما، فكان ما أثبت في كل منهما، دليلاً على ما حذف في الثاني، ففي الأول حذف المفعول الثاني، والتقدير "لتنذر أم القرى" أي أهل مكة ومن حولها، عذاباً شديداً إن لم يؤمنوا، وفي الثاني حذف المفعول الأول، أي وتنذر الناس يوم الجمع وهو يوم القيامة أي تخوفهم مما فيه من الأهوال، والأوجال ليستعدوا لذلك في دار الدنيا.
والثاني: أن يوم الجمع المذكور لا ريب فيه، أي لا شك في وقوعه، وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة، جاءا موضحين في آيات أخر.
أما تخويفه الناس يوم القيامة، فقد ذكر في مواضع من كتاب الله كقوله تعالى:
{ { وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ } [البقرة: 281] الآية. وقوله تعالى: { { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلأَزِفَةِ } [غافر: 18] الآية. وقوله تعالى: { { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } [المزمل: 17ـ18]: وقوله تعالى: { { أَلا يَظُنُّ أُوْلَـٰئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [المطففين: 4ـ6] والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وأما الثاني منهما: وهو كون يوم القيامة لا ريب فيه فقد جاء في مواضع أخركقوله تعالى:
{ { ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ } [النساء: 87] وقوله { { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } [آل عمران: 25] وقوله تعالى: { { وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا } [الحج: 7] الآية. وقوله تعالى: { { وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَٱلسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا ٱلسَّاعَة } [الجاثية: 32] الاية. إلى غير ذلك من الآيات.
وإنما سمي يوم القيامة يوم الجمع، لأن الله يجمع فيه جميع الخلائق. والآيات الموضحة لهذا المعنى، كثيرة كقوله تعالى:
{ { قُلْ إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ وَٱلآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [الواقعة: 49ـ50] وقوله تعالى: { { هذا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَٱلأَوَّلِينَ } [المرسلات: 38]. وقوله تعالى: { { ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } [النساء: 87] الآية. وقوله تعالى: { { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ } [التغابن: 9] وقوله تعالى: { { ذٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } [هود: 103] وقوله تعالى: { { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [آل عمران: 25] وقوله تعالى: { { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } [الكهف: 47].
وقد بين تعالى شمول ذلك الجمع لجميع الدواب والطير في قوله تعالى:
{ { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [الأنعام: 38]، والآيات الدالة على الجمع المذكورة كثيرة.
قوله تعالى: { فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ }.
ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الله خلق الخلق، وجعل منهم فريقاً سعداء، وهم أهل الجنة، وفريقاً أشقياء وهم أصحاب السعير، جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى:
{ { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } [التغابن: 2] وقوله تعالى: { { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ } [هود: 118ـ119] أي ولذلك الاختلاف، إلى المؤمن وكافر وشقي وسعيد، خلقهم على الصحيح، ونصوص الوحي الدالة على ذلك كثيرة جداً.
وقد ذكرنا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وجه الجمع بين قوله: { وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ } على التفسير المذكور، وبين قوله
{ { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]، وسنذكر ذلك إن شاء الله في سورة الذاريات.
وقد قدمنا معنى السعير بشواهده العربية في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى:
{ { وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ } [الحج: 4]، والجنة في لغة العرب البستان.
ومنه قول زهير بن أبي سلمى:

كأن عيني في غربي مقتلة من النواضح تسقي جنة سحقا

فقوله: جنة سحقا، يعني بستاناً طويل النخل، وفي اصطلاح الشرع هي دار الكرامة التي أعد الله لأوليائه يوم القيامة.
والفريق: الطائفة من الناس، ويجوز تعدده إلى أكثر من اثنين، ومنه قول نصيب:

فقال فريق القوم لا، وفريقهم نعم وفريق قال ويحك ما ندري

والمسوغ للابتداء بالنكرة في قوله: فريق في الجنة، أنه في معرض التفصيل.
ونظيره من كلام العرب قول امرئ القيس:

فلما دنوت تسديتها فثوب نسيت وثوب أجر