التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
٣١
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ
٣٢
-الزخرف

أضواء البيان في تفسير القرآن

وقالوا: أي قال كفار مكة، لولا أي هلا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين، أي من إحدى القريتين، وهما مكة والطائف عظيم يعنون بعظمه، كثرة ماله وعظم جاهه، وعلو منزلته في قومه، وعظيم مكة الذي يريدون هو الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب، وفي مرة بن كعب يجتمع نسبه بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف.
وعظيم الطائف. هو عروة بن مسعود. وقيل حبيب بن عمرو بن عمير. وقيل هو كنانة بن عبد يا ليل وقيل غير ذلك.
وإيضاح الآية أن الكفار أنكروا أولاً أن يبعث الله رسولاً من البشر كما أوضحناه مراراً.
ثم لما سمعوا الأدلة على أن الله لم يبعث إلى البشر رسولاً إلا من البشر تنازلوا عن اقتراحهم إرسال رسل من الملائكة إلى اقتراح آخر، وهو اقتراح تنزيل هذا القرآن على أحد الرجلين المذكورين:
وهذا الاقتراح يدل على شدة جهلهم، وسخافة عقولهم، حيث يجعلون كثرة المال، والجاه في الدنيا، موجباً لاستحقاق النبوة. وتنزيل الوحي.
ولذا زعموا، أن محمداً صلى الله عليه وسلم، ليس أهلاً لإنزال هذا القرآن عليه، لقلة ماله، وأن أحد الرجلين المذكورين أحق أن ينزل عليه القرآن منه صلى الله عليه وسلم.
وقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة، شدة جهلهم، وسخافة عقولهم، بقوله { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } والظاهر المتبادر أن المراد برحمة ربك النبوة وإنزال الوحي.
وإطلاق الرحمة على ذلك متعدد في القرآن كقوله تعالى في الدخان
{ { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } [الدخان: 5-6] الآية، وقوله في آخر القصص { { وَمَا كُنتَ تَرْجُوۤ أَن يُلْقَىٰ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } [القصص: 86] الآية، وقوله في آخر الأنبياء { { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء: 107].
وقد قدمنا الآيات الدالة، على إطلاق الرحمة: والعلم على النبوة في سورة الكهف، في الكلام على قوله تعالى:
{ { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا } [الكهف: 65] الآية.
وقدمنا معاني إطلاق الرحمة، في القرآن في سورة فاطر، في الكلام على قوله تعالى
{ { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } [فاطر: 2] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [الزخرف: 32] يعني أنه تعالى لم يفوض إليهم أمر معايشهم وحظوظهم، في الدنيا، بل تولى هو جل وعلا قسمة ذلك بينهم، فجعل هذا غنياً، وهذا فقيراً، وهذا رفيعاً، وهذا وضيعاً، وهذا خادماً، وهذا مخدوماً، ونحو ذلك فإذا لم يفوض إليهم، حظوظهم في الدنيا، ولم يحكمهم فيها.
بل كان تعالى هو المتصرف فيها بما شاء كيف شاء، فكيف يفوض إليهم أمر إنزال الوحي حتى يتحكموا في من ينزل إليه الوحي؟
فهذا مما لا يعقل ولا يظنه إلا غبي جاهل كالكفار المذكورين.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّا } التحقيق إن شاء الله أنه من التسخير.
ومعنى تسخير بعضهم لبعض، خدمة بعضهم البعض، وعمل بعضهم لبعض، لأن نظام العالم في الدنيا، يتوقف قيامه على ذلك فمن حكمته جل وعلا، أن يجعل هذا فقيراً مع كونه قوياً قادراً على العمل، ويجعل هذا ضعيفاً لا يقدر على العمل بنفسه، ولكنه تعالى يهيئ له دراهم، يؤجر بها ذلك الفقير القوي فينتفع القوي بدراهم الضعيف، والضعيف بعمل القوي فتنتظم المعيشة، لكل منهما وهكذا.
وهذه المسائل التي ذكرها الله جل وعلا، في هذه السورة الكريمة جاءت كلها موضحة في آيات أخر من كتاب الله.
أما زعمهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم أنقص شرفاً، وقدراً من أن ينزل عليه الوحي، فقد ذكره الله عنهم في (ص) في قوله تعالى
{ { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي } [ص: 8] الآية.
فقول كفار مكة
{ { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا } [ص: 8] معناه إنكارهم، أن يخصه الله بإنزال الوحي من بينهم، لزعمهم أن فيهم من هو أحق بالوحي منه، لكثرة ماله، وجاهه وشرفه فيهم.
وقد قال قوم صالح، مثل ذلك لصالح، كما قال تعالى منهم
{ { أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } [القمر: 25].
فقلوب الكفار متشابهة فكانت أعمالهم متشابهة.
كما قال تعالى
{ { كَذَلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } [البقرة: 118] وقال تعالى { { أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } [الذاريات: 53].
وأما اقتراحهم إنزال الوحي على غيره منهم، وأنهم لا يرضون خصوصيته بذلك دونهم، فقد ذكره تعالى في سورة الأنعام في قوله تعالى:
{ { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ } [الأنعام: 124] وقوله تعالى في المدثر { { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } [المدثر: 52].
أي تنزل عليه صحف بالوحي من السماء، كما قال مجاهد وغير واحد، وهو ظاهر القرآن.
وفي الآية قول آخر معروف.
وأما إنكاره تعالى عليهم، اقتراح إنزال الوحي على غير محمد صلى الله عليه وسلم، الذي دلت عليه همزة الإنكار المتضمنة مع الإنكار لتجهيلهم، وتسفيه عقولهم، في قوله: { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } [الزخرف: 32]. فقد أشار تعالى إليه مع الوعيد الشديد في الأنعام.
لأنه تعالى لما قال
{ { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ } [الأنعام: 124] أتبع ذلك بقوله، رداً عليهم، وإنكاراً لمقالتهم { { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام: 124].
ثم أوعدهم على ذلك بقوله
{ { سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } [الأنعام: 124].
وأما كونه تعالى هو الذي تولى قسمة معيشتهم بينهم، فقد جاء في مواضع أخر كقوله تعالى:
{ { وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } [النحل: 71]. وقوله تعالى { { ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [الإسراء: 21] وقوله تعالى: { { ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } [الرعد: 26] وقوله تعالى: { { وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ } [الشورى: 27] وقوله تعالى: { { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا } [النساء: 135] الآية.
وقد أوضح تعالى حكمة هذا التفاضل، والتفاوت في الأرزاق، والحظوظ والقوة والضعف، ونحو ذلك، بقوله هنا { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } [الزخرف: 32]، كما تقدم.
وقوله تعالى هنا { وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }. يعني أن النبوة، والاهتداء يهدي الأنبياء، وما يناله المهتدون يوم القيامة، خير مما يجمعه الناس في الدنيا من حطامها.
وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى، في غير هذا الموضع، كقوله في سورة يونس
{ { قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [يونس: 58] وقوله تعالى في آل عمران { { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [آل عمران: 157].
مسألة
دلت هذه الآيات الكريمة، المذكورة هنا، كقوله تعالى: { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ } [الزخرف: 32] الآية. وقوله
{ { وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي ٱلْرِّزْقِ } [النحل: 71] الآية ونحو ذلك من الآيات، على أن تفاوت الناس في الأرزاق، والحظوظ سنة، من سنن الله السماوية الكونية، القدرية، لا يستطيع أحد من أهل الأرض، البتة تبديلها، ولا تحويلها، بوجه من الوجوه، { { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً } [فاطر: 43].
وبذلك تحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله، ولجميع النبوات، والرسائل السماوية، إلى ابتزاز ثروات الناس، ونزع ملكهم الخاص، عن أملاكهم بدعوى المساواة بين الناس، في معايشهم أمر باطل. لا يمكن بحال من الأحوال.
مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون. وإنما يقصدون استئثارهم، بأملاك جميع الناس، ليتمتعوا بها ويتصرفوا فيها، كيف شاءوا، تحت ستار كثير من أنواع الكذب، والغرور والخداع، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم، وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم.
فالطغمة القليلة الحاكمة، ومن ينضم إليها، هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد. وغيرهم من عامة الشعب. محرومون من كل خير. مظلومون في كل شيء. حتى ما كسبوه بأيديهم، يعلفون ببطاقة، كما تعلف البغال والحمير.
وقد علم الله جل وعلا في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير وهذا غني وقد نهى جل وعلا عن اتباع الهوى بتلك الدعوى، وأوعد من لم ينته عن ذلك، بقوله تعالى:
{ { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [النساء: 135]. وقوله: { { فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [النساء: 135] فيه وعيد شديد لمن فعل ذلك.