التفاسير

< >
عرض

وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ
٣٣
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ
٣٤
وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ
٣٥
-الزخرف

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله لبيوتهم، في الموضعين، قرأه ورش وأبو عمرو وحفص، عن عاصم بضم الباء على الأصل.
وقرأه قالون، عن نافع وابن كثير، وابن عامر، وحمزة والكسائي، وشعبة عن عاصم { لبيوتهم } بكسر الباء لمجانسة الكسرة للياء.
وقوله سقفاً: قرأه نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وعاصم، سقفاً بضمتين، على الجمع.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو { سقفاً } بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد المراد به الجمع.
وقوله: { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } قرأه نافع وابن كثير، وابن عامر، في رواية ابن ذكوان، وإحدى الروايتين عن هشام وأبي عمرو والكسائي { لما متاع الحياة الدنيا } بتخفيف الميم من لما.
وقرأه عاصم، وحمزة وهشام، عن ابن عامر، وفي إحدى الروايتين { لما متاع الحياة الدنيا } بتشديد الميم من لما.
ومعنى الآية الكريمة، أن الله لما بين حقارة الدنيا، وعظم شأن الآخرة في قوله:
{ { وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [الزخرف: 32].
أتبع ذلك ببيان شدة حقارتها، وأنه جعلها مشتركة، بين المؤمنين، والكافرين وجعل ما في الآخرة من النعيم خاصاً بالمؤمنين، دون الكافرين وبين حكمته في اشتراك المؤمن مع الكافر، في نعيم الدنيا بقوله: { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي لولا كراهتنا لكون جميع الناس أمة واحدة، متفقة على الكفر، لأعطينا زخارف الدنيا كلها للكفار.
ولكننا لعلمنا، بشدة ميل القلوب إلى زهرة الحياة الدنيا، وحبها لها لو أعطينا ذلك كله للكفار، لحملت الرغبة في الدنيا جميع الناس على أن يكونوا كفاراً، فجعلنا في كل من الكافرين والمؤمنين غنياً وفقيراً، وأشركنا بينهم في الحياة الدنيا.
ثم بين جل وعلا اختصاص نعيم الآخرة بالمؤمنين في قوله: { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 35].
أي خالصة لهم دون غيرهم.
وهذا المعنى جاء موضحاً في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في الأعراف:
{ { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَة } [الأعراف: 32].
فقوله:
{ { قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [الأعراف: 32] أي مشتركة بينهم في الحياة الدنيا، خالصة يوم القيامة.
أي خاصة بهم، دون الكفار، يوم القيامة.
إذ لا نصيب للكفار البتة في طيبات الآخرة.
فقوله في آية الأعراف هذه
{ { قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [الأعراف: 32] صريح في اشتراك المؤمنين مع الكفار في متاع الحياة الدنيا.
وذلك الاشتراك المذكور، دل عليه حرف الامتناع، للوجود الذي هو لولا، في قوله هنا { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } [الزخرف: 33].
وخصوص طيبات الآخرة، بالمؤمنين المنصوص عليه في آية الأعراف بقوله
{ { خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَة } [الأعراف: 32] هو الذي أوضحه تعالى في آية الزخرف هذه بقوله { وَٱلآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 35].
وجميع المؤمنين يدخلون في الجملة في لفظ المتقين لأن كل مؤمن اتقى الشرك بالله.
وما دلت عليه هذه الآيات. من أنه تعالى يعطي الكفار من متاع الحياة الدنيا، دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله. كقوله تعالى
{ { قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ } [البقرة: 126] وقوله { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [لقمان: 24] وقوله تعالى { { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [يونس: 23] وقوله { { قُلْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي ٱلدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ ٱلْعَذَابَ ٱلشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [يونس: 69-70] والآيات بمثل هذا كثيرة.
وقد بين تعالى في آيات من كتابه، أن إنعامه على الكافرين ليس لكرامتهم عليه، ولكنه للاستدراج، كقوله تعالى
{ { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } [القلم: 44-45] وقوله تعالى { { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الأنعام: 44-45] وقوله تعالى { { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا ٱلضَّرَّآءُ وَٱلسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [الأعراف: 95] وقوله تعالى { { قُلْ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً } [مريم: 75] على أظهر التفسيرين. وقوله تعالى: { { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [آل عمران: 178] وقوله تعالى: { { فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [الحج: 44].
ودعوى الكفار، أن الله ما أعطاهم المال ونعيم الدنيا إلا لكرامتهم عليه واستحقاقهم لذلك، وأنه إن كان البعث حقاً أعطاهم خيراً منه في الآخرة قد ردها الله عليهم في آيات كثيرة كقوله تعالى
{ { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي ٱلْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } [المؤمنون: 55-56]، وقوله تعالى { { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } [سبأ: 37]، وقوله تعالى { { قَالُواْ مَآ أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } [الأعراف: 48]، وقوله تعالى: { { مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } [المسد: 2] وقوله تعالى: { { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ } [الليل: 11] وقوله تعالى { { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } [الأنعام: 94] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا طرفاً من هذا في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى:
{ { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [الكهف: 36].
ولنرجع إلى تفسير ألفاظ الآية الكريمة. فقوله { جعلنا } أي صيرنا، وقوله { لبيوتهم } بدل اشتمال مع إعادة العامل، من قوله لمن يكفر، وعلى قراءة سقفاً بضمتين، فهو جمع سقف، وسقف البيت معروف.
وعلى قراءة سقفاً بفتح السين، وسكون القاف: فهو مفرد أريد به الجمع.
وقد قدمنا في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى
{ { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [الحج: 5] أن المفرد إذا كان اسم جنس. يجوز إطلاقه مراداً به الجمع وأكثرنا من أمثلة ذلك في القرآن، ومن الشواهد العربية. على ذلك.
وقوله { ومعارج } الظاهر أنه جمع معرج بلا ألف بعد الراء.
والمعرج والمعراج بمعنى واحد وهو الآلة التي يعرج بها أي يصعد بها، إلى العلو.
وقوله: يظهرون أي يصعدون ويرتفعون، حتى يصيروا على ظهور البيوت. ومن ذلك المعنى قوله تعالى
{ { فَمَا ٱسْطَاعُوۤاْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا ٱسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً } [الكهف: 97].
والسرر جمع سرير، والاتكاء معروف.
والأبواب جمع باب وهو معروف، والزخرف الذهب.
قال الزمخشري: إن المعارج التي هي المصاعد، والأبواب والسرر كل ذلك من فضة، كأنه يرى اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في ذلك، وعلى هذا المعنى فقوله زخرفاً مفعول، عامله محذوف والتقدير وجعلنا لهم مع ذلك زخرفاً.
وقال بعض العلماء: إن جميع ذلك بعضه من فضة، وبعضه من زخرف، أي ذهب.
وقد ذكر القرطبي أن إعراب قوله وزخرفاً على هذا القول أنه منصور بنزع الخافض، وأن المعنى من فضة، ومن زخرف، فحذف حرف الجر فانتصب زخرفاً.
وأكثر علماء النحو على أن النصب بنزع الخافض ليس مطرداً ولا قياسياً، وما سمع منه يحفظ ولا يقاس عليه.
وعليه درج ابن مالك في الخلاصة في قوله: وإن حذف فالنصب للمنجر نقلاً، إلخ.
وعلي بن سليمان وهو الأخفش الصغير يرى اطراده في كل شيء أمن فيه اللبس، كما أشار في الكافية بقوله:

وابن سليمان اطراده رأى إن لم يخف لبس كمن زيد نأى

وقوله تعالى: { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } على قراءة الجمهور بتخفيف الميم من لما، فإن هي المخففة، من الثقيلة، واللام هي الفارقة بين إن المخففة من الثقيلة، وإن النافية المشار إليها بقوله في الخلاصة:

وخففت إن فعل العمل وتلزم اللام إذا ما تهمل

وما مزيدة للتوكيد، وأما على قراءة عاصم وحمزة وابن عامر في إحدى الروايتين عن هشام لما بتشديد الميم فإن نافية، ولما حرف إثبات بمعنى إلا.
والمعنى: وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا.
وذكره بعضهم أن تشديد ميم لما على بعض القراءات في هذه الآية وآية الطارق
{ { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [الطارق: 4] لغة بني هذيل بن مدركة والعلم عند الله تعالى.