التفاسير

< >
عرض

إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لأيَٰتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ
٣
وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ
٤
وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٥
-الجاثية

أضواء البيان في تفسير القرآن

ذكر جل وعلا، في هذه الآيات الكريمة، من أول سورة الجاثية ست براهين، من براهين التوحيد الدالة على عظمته وجلاله، وكمال قدرته، وأنه المستحق للعبادة وحده تعالى.
الأول: منها خلقه السماوات والأرض.
الثاني: خلقه الناس.
الثالث: خلقه الدواب.
الرابع: اختلاف الليل والنهار.
الخامس: إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض به.
السادس: تصريف الرياح.
وذكر أن هذه الآيات والبراهين، إنما ينتفع بها المؤمنون، الموقنون الذين يعقلون عن الله حججه، وآياته.
فكأنهم هم المختصون بها دون غيرهم.
ولذا قال: { لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ }، ثم قال: { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ }، ثم قال: { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }.
وهذه البراهين الستة المذكورة في أول هذه السورة الكريمة، جاءت موضحة في آيات كثيرة جداً كما هو معلوم.
أما الأول منها وهو خلقه السماوات والأرض المذكور في قوله: { إِنَّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ } فقد جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى
{ أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ وَٱلأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيب } [ق: 6-8] وقوله تعالى: { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْض } [سبأ: 9] الآية. وقوله: { قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا تُغْنِي ٱلآيَاتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [يونس: 101] الآية. وقوله: { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [الأعراف: 185] الآية. وقوله: { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [الروم: 22 والشورى: 29] في الروم والشورى. وقوله: { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً } [البقرة: 22] وقوله تعالى: { ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَـلَ لَكُـمُ ٱلأَرْضَ قَـرَاراً وَٱلسَّمَآءَ بِنَـآءً } [غافر: 64]، وقوله تعالى: { وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُون وَٱلأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ ٱلْمَاهِدُونَ } [الذاريات: 47-48]. وقوله تعالى: { أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَاداً } [النبأ: 6] الى قوله { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } [النبأ: 12] والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً معروفة.
وأما الثاني منها: وهو خلقه الناس المذكور في قوله: { وَفِي خَلْقِكُم } فقد جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى:
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } [الروم: 20] وقوله: { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُم } [البقرة: 21] الآية. وقوله تعالى عن نبيه نوح: { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } نوح: [13-14]، وقوله تعالى: { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُـمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ } [الزمر: 6] وقوله { وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [الذاريات: 21]، والآيات بمثل ذلك كثيرة ومعلومة.
وأما الثالث منها: وهو خلقه الدواب المذكور في قوله:{ وَمَا يَبُثُّ مِن دآبَّةٍ } فقد جاء أيضاً موضحاً في آيات كثيرة أيضاً من كتاب الله كقوله تعالى في سورة الشورى:
{ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ } [الشورى: 29]. وقوله تعالى في البقرة: { وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } [البقرة: 164] الآية. وقوله تعالى: { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [النور: 45]، وقوله تعالى { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [الزمر: 6] والآيات بمثل ذلك كثيرة ومعلومة.
وأما الرابع منها: وهو اختلاف الليل والنهار المذكور في قوله: واختلاف الليل والنهار. فقد جاء موضحاً أيضاً في آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى في البقرة:
{ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ } [البقرة: 164] الى قوله: { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة: 164]. وقوله تعالى في آل عمران: { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [آل عمران: 190]، وقوله تعالى في فصلت: { وَمِنْ آيَاتِهِ ٱللَّيْلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } [فصلت: 37] الآية، وقوله تعالى: { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا } [يس: 37-38] الآية. وقوله تعالى: { يُقَلِّبُ ٱللَّهُ ٱللَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } [النور: 44]، وقوله تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [القصص: 71-73]، وقوله تعالى: { وَهُوَ ٱلَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ ٱخْتِلاَفُ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [المؤمنون: 80] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وأما الخامس منها وهو: إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض به وإنبات الرزق فيها المذكور في قوله: { وَمَآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } فقد جاء موضحاً أيضاً في آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى في البقرة:
{ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [البقرة: 164] الى قوله { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون } [البقرة: 164]، وقوله تعالى: { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً } [عبس:24-27] الى قوله { مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } [عبس: 32] وإيضاح هذا البرهان باختصار أن قوله تعالى: { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ } [عبس: 24] أمر من الله تعالى لكل إنسان مكلف أن ينظر ويتأمل في طعامه كالخبز الذي يأكله، ويعيش به من خلق الماء الذي كان سبباً لنباته. هل يقدر أحد غير الله أن يخلقه؟
الجواب: لا.
ثم وهب أن الماء قد خلق بالفعل، هل يقدر أحد غير الله أن ينزله إلى الأرض، على هذا الوجه الذي يحصل به النفع، من غير ضرر بإنزاله على الأرض رشاً صغيراً، حتى تروى به الأرض تدريجاً. من غير أن يحصل به هدم، ولا غرق كما قال تعالى:
{ فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } [النور: 43 والروم: 48].
الجواب: لا.
ثم هب أن الماء قد خلق فعلاً، وأنزل في الأرض، على ذلك الوجه الأتم الأكمل، هل يقدر أحد غير الله أن يشق الأرض، ويخرج منها مسمار النبات؟
الجواب: لا.
ثم هب أن النبات خرج من الأرض، وانشقت عنه فهل يقدر أحد غير الله أن يخرج السنبل من ذلك النبات؟
الجواب: لا.
ثم هب أن السنبل خرج من النبات فهل يقدر أحد غير الله أن ينمي حبه وينقله من طور إلى طور حتى يدرك ويكون صالحاً للغذاء والقوت؟
الجواب: لا.
وقد قال تعالى:
{ ٱنْظُرُوۤاْ إِلِىٰ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذٰلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [الأنعام: 99]، وكقوله تعالى: { وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً } : [النبأ: 14-16]. وقوله تعالى: { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } [يس: 33]، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
واعلم أن إطلاقه تعالى الرزق على الماء، في آية الجاثية هذه، قد أوضحنا وجهه في سورة المؤمن في الكلام على قوله تعالى:
{ هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزْقاً } [غافر: 13] الآية.
وأما السادس منها: وهو تصريف الرياح المذكور في قوله { وَتَصْرِيِفِ الرِّيَاحِ } فقد فقد جاء موضحاً أيضاً في آيات من كتاب الله كقوله في البقرة:
{ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة: 164] وقوله تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ ٱلرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ } [الروم: 46]، وقوله تعالى { وَأَرْسَلْنَا ٱلرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } [الحجر: 22] الى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
اعلم أن هذه البراهين العظيمة المذكورة، في أول سورة الجاثية، هذه ثلاثة منها، من براهين البعث، التي يكثر في القرآن العظيم، الاستدلال بها على البعث، كثرة مستفيضة.
وقد أوضحناها في مواضع من هذا الكتاب المبارك في سورة البقرة وسورة النحل وغيرهما، وأحلنا عليها مراراً كثيرة من هذا الكتاب المبارك وسنعيد طرفاً منها هنا لأهميتها إن شاء الله تعالى.
والأول من البراهين المذكورة هو خلق السماوات والأرض هنا في سورة الجاثية هذه { إِنَّ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ } لأن خلقه جل وعلا للسماوات والأرض، من أعظم البراهين على بعث الناس بعد الموت لأن من خلق الأعظم الأكبر، لا شك في قدرته على خلق الأضعف الأصغر.
والآيات الدالة على هذا كثيرة كقوله تعالى:
{ لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } [غافر: 57] أي ومن قدر على خلق الأكبر فلا شك أنه قادر على خلق الأصغر، وقوله تعالى: { أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلاَّقُ ٱلْعَلِيمُ } { يس: 81]. وقوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ بَلَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الأحقاف: 33] وقوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } [الإسراء: 99] الآية. وقوله تعالى: { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُم } [النازعات: 27-33].
ونظير آية النازعات هذه قوله تعالى في أول الصافات:
{ فَٱسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } [الصافات: 11] الآية، لأن قوله: { أَم مَّنْ خَلَقنَآ } يشير به إلى خلق السماوات والأرض، وما ذكر معهما المذكور في قوله تعالى: { رَّبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ ٱلْمَشَارِقِ } [الصافات: 5] الى قوله { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [الصافات: 10].
وأما الثاني من البراهين المذكورة: فهو خلقه تعالى للناس المرة الأولى، لأن من ابتدع خلقهم على غير مثال سابق، لا شك في قدرته على إعادة خلقهم، مرة أخرى كما لا يخفى.
والاستدلال بهذا البرهان على البعث كثير جداً في كتاب الله كقوله تعالى:
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَاب } { الحج: 5] الى آخر الآيات. وقوله تعالى: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس: 78-79] وقوله تعالى: { وَيَقُولُ ٱلإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَٱلشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً } [مريم: 66-68] الآية. وقوله تعالى: { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم: 27] الآية. وقوله تعالى: { فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الإسراء: 51] وقوله تعالى: { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء: 104] وقوله تعالى: { أَفَعَيِينَا بِٱلْخَلْقِ ٱلأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ق: 15] وقوله تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } [الواقعة: 62] وقوله تعالى: { وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُخْرَىٰ } [النجم: 45-47] وقوله تعالى: { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ فَجَعَلَ مِنْهُ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ } [القيامة: 36-40]. وقوله تعالى: { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين: 1-4] الى قوله: { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِٱلدِّينِ } [التين: 7] يعني أي شئ يحملك على التكذيب بالدين أي بالبعث والجزاء، وقد علمت أني خلقتك الخلق الأول في أحسن تقويم، وأنت تعلم أنه لا يخفى على عاقل أن من ابتدع الإيجاد الأول لا شك في قدرته، على إعادته مرة أخرى إلى غير ذلك من الآيات.
وأما البرهان الثالث منها: وهو إحياء الأرض بعد موتها المذكور في قوله تعالى في سورة الجاثية هذه: { وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا }، فانه يكثر الاستدلال به أيضاً على البعث في القرآن العظيم، لأن من أحيا الأرض بعد موتها قادر على إحياء الناس بعد موتهم، لأن الجميع أحياء بعد موت.
فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى:
{ { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [فصلت: 39] وقوله تعالى: { { وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُور } ِ }[الحج: 5-7] وقوله تعالى: { فَٱنظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَةِ ٱللَّهِ كَيْفَ يُحْيِيِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْييِ ٱلْمَوْتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الروم: 50] وقوله تعالى: { وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ ٱلْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الأعراف: 57].
فقوله تعالى: { كَذَالِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى } أي نبعثهم من قبورهم أحياء كما أخرجنا تلك الثمرات بعد عدمها، وأحيينا بإخراجها ذلك البلد الميت، وقوله تعالى:
{ يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَيُحْيِي ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } [الروم: 19] يعني تخرجون من قبوركم أحياء بعد الموت، وقوله تعالى: { وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ ٱلْخُرُوجُ } [ق: 11] إلى غير ذلك من الآيات.