التفاسير

< >
عرض

قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
٩
-الأحقاف

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ }.
الأظهر في قوله { بدعا } أنه فعل بمعنى المفعول فهو بمعنى مبتدع، والمبتدع هو الذي أبدع على غير مثال سابق.
ومعنى الآية قل لهم يا نبي الله: ما كنت أول رسول أرسل إلي البشر، بل قد أرسل الله قبلي جميع الرسل إلى البشر، فلا وجه لاستبعادكم رسالتي، واستنكاركم إياها، لأن الله أرسل قبلي رسلاً كثيرة.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، جاء موضحاً في آيات كثيرة، كقوله تعالى:
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً } [الرعد: 38] وقوله تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ } [الروم: 47] الآية. وقوله تعالى: { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ نُوحٍ وَٱلنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ } [النساء: 163] الآية. وقوله تعالى { حـمۤ عۤسۤقۤ كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [الشورى: 1-3] وقوله تعالى: { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } [فصلت: 43] الآية. وقوله تعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ } [آل عمران: 144] الآية. وقوله تعالى: { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } [الأنعام: 34] الآية، الآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
قوله تعالى: { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ }.
التحقيق إن شاء الله، أن معنى الآية الكريمة، ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في دار الدنيا، فما أدري أأخرج من مسقط رأسي أو أقتل كما فعل ببعض الأنبياء.
وما أدري ما ينالني من الحوادث والأمور في تحمل أعباء الرسالة.
وما أدري ما يفعل بكم أيخسف بكم، أو تنزل عليكم حجارة من السماء، ونحو ذلك.
وهذا هو اختيار ابن جرير وغير واحد من المحققين.
وهذا المعنى في هذه الآية دلت عليه آيات من كتاب الله كقوله تعالى:
{ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوۤء } [الأعراف: 188] الآية.
وقوله تعالى آمراً له صلى الله عليه وسلم:
{ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاۤ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ } [الأنعام: 50] الآية.
وبهذا تعلم أن ما يروى عن ابن عباس وأنس وغيرهما من أن المراد، { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } أي في الآخرة فهو خلاف التحقيق، كما سترى إيضاحه إن شاء الله.
فقد روي عن ابن عباس وأنس وقتادة والضحاك وعكرمة والحسن في أحد قوليه أنه لما نزل قوله تعالى: { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } فرح المشركون واليهود والمنافقون، وقالوا: كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به ولا بنا وأنه لا فضل له علينا، ولولا أنه ابتدع الذي يقوله، من عند نفسه، لأخبره الذي بعثه بما يفعل به.
فنزلت
{ لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [الفتح: 2] فنسخت هذه الآية.
وقالت الصحابة: هنيئاً لك يا رسول الله، لقد بين لك الله ما يفعل بك فليت شعرنا ما هو فاعل بنا.
فنزلت
{ لِّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } [الفتح: 5] الآية. ونزلت: { وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ فَضْلاً كِبِيراً } [الأحزاب: 47].
فالظاهر أن هذا كله خلاف التحقيق، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجهل مصيره يوم القيامة لعصمته صلوات الله وسلامه عليه: وقد قال له الله تعالى
{ وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [الضحى: 4-5] وأن قوله: { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } في أمور الدنيا كما قدمنا. فإن قيل: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم "من حديث أم العلاء الأنصارية ما يدل على أن قوله: { مَا يُفْعَلُ بِي } أي في الآخرة فإن حديثها في قصة وفاة عثمان بن مظعون رضي الله عنه عندهم، ودخول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، أنها قالت: رحمة الله عليك، أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل تعني عثمان بن مظعون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقلت: لا أدري بأبي أنت وأمي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي" الحديث.
فالجواب هو ما ذكره الحافظ ابن كثيررحمه الله ، فقد قال في تفسير هذه الآية الكريمة، بعد أن ساق حديث أم العلاء المذكور بالسند الذي رواه به أحمدرحمه الله انفرد به البخاري دون مسلم، وفي لفظ له
"ما أدري وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفعل به" ، وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ بدليل قولها فأحزنني ذلك اهـ. محل الغرض منه وهو الصواب إن شاء الله، والعلم عند الله تعالى.