التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
٤
-محمد

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا }.
قوله تعالى: فضرب الرقاب مصدر نائب عن فعله، وهو بمعنى فعل الأمر، ومعلوم أن صيغ الأمر في اللغة العربية أربع:
وهي فعل الأمر كقوله تعالى:
{ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } [الإسراء: 78] الآية.
واسم فعل الأمر كقوله تعالى:
{ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } [المائدة: 105] الآية.
والفعل المضارع المجزوم بلام الأمر كقوله تعالى:
{ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } [الحج: 29] الآية.
والمصدر النائب عن فعله كقوله تعالى: { فَضَرْبَ ٱلرِّقَاب }، أي فاضربوا رقابهم، وقوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُم } أي أوجعتم فيهم قتلاً.
فالإثخان هو الإكثار من قتل العدو حتى يضعف ويثقل عن النهوض.
وقوله: فشدوا الوثاق، أي فأسروهم، والوثاق بالفتح والكسر اسم لما يؤسر به الأسير من قد ونحوه.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من الأمر بقتل الكفار حتى يثخنهم المسلمون، ثم بعد ذلك يأسرونهم جاء موضحاً في غير هذا الموضع، كقوله تعالى:
{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْض } [الأنفال: 67]، الآية، وقد أمر تعالى بقتلهم في آيات أخر كقوله تعالى: { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُم } [التوبة: 5] الآية.
وقوله:
{ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [الأنفال: 12]، وقوله تعالى: { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } [التوبة: 36] الآية. وقوله: { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي ٱلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } [الأنفال: 57] الآية، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } أي فإما تمنون عليهم منا، أو تفادونهم فداء.
ومعلوم أن المصدر إذا سيق لتفصيل وجب حذف عامله، كما قال في الخلاصة:

وما لتفصيل كإما منا عامله يحذف حيث عنا

ومنه قول الشاعر:

لأجهدن فإما درء واقعة تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل

وقال بعض العلماء: هذه الآية منسوخة بالآيات التي ذكرنا قبلها وممن يروى عنه هذا القول، ابن عباس والسدي وقتادة والضحاك وابن جريج.
وذكر ابن جرير عن أبي بكر رضي الله عنه ما يؤيده.
ونسخ هذه الآية هو مذهب أبي حنيفةرحمه الله فإنه لا يجوز عنده المن ولا الفداء، لأن الآية المنسوخة عنده بل يخير عنده الإمام بين القتل والاسترقاق.
ومعلوم أن آيات السيف النازلة في براءة نزلت بعد سورة القتال هذه.
وأكثر أهل العلم يقولون: إن الآية ليست منسوخة، وإن جميع الآيات المذكورة، محكمة، فالإمام مخير وله أن يفعل ما رآه مصلحة للمسلمين من من وفداء وقتل واسترقاق.
قالوا: قتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث أسيرين يوم بدر، وأخذ فداء غيرهما من الأسارى.
ومن على ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة، وكان يسترق السبي من العرب وغيرهم.
وقال الشوكاني في نيل الأوطار:
والحاصل أنه قد ثبت في جنس أسارى الكفار جواز القتل والمن والفداء والاسترقاق، فمن ادعى أن بعض هذه الأمور تختص ببعض الكفار دون بعض لم يقبل منه ذلك إلا بدليل ناهض يخصص العمومات، والمجوز قائم فى مقام المنع، وقول علي وفعله عند بعض المانعين من استرقاق ذكور العرب حجة.
وقد استرق بني ناجية ذكورهم وإناثهم وباعهم كما هو مشهور في كتب السير والتواريخ اهـ. محل الغرض منه.
ومعلوم أن بني ناجية من العرب.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له:
لم يختلف المسلمون في جواز الملك بالرق.
ومعلوم أن سببه أسر المسلمين الكفار في الجهاد، والله تبارك وتعالى في كتابه يعبر عن الملك بالرق بعبارة هي أبلغ العبارات، في توكيد ثبوت ملك الرقيق، وهي ملك اليمين لأن ما ملكته يمين الإنسان، فهو مملوك له تماماً، وتحت تصرفه تماماً، كقوله تعالى:
{ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [النساء: 3] وقوله: { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } [المؤمنون: 5-6] في سورة { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [المؤمنون: 1] و { سَأَلَ سَآئِلٌ } [المعارج: 1] وقوله: { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } [النساء: 24] الآية. وقوله: { { وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ } [النور: 33] الآية. وقوله: { وَٱلْجَارِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلجَنْبِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم } [النساء: 36]. وقوله: { لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } [الأحزاب: 52] الآية. وقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ٱللاَّتِيۤ آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ } [الأحزاب: 50] الآية. وقوله: { أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } [النور: 31]. وقوله: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ٱلْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ } [النساء: 25] وقوله: { فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُم } [النحل: 71]. وقوله { هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ } [الروم: 28] الآية، فالمراد بملك اليمين في جميع هذه الآيات كلها الملك بالرق، والأحاديث والآيات بمثل ذلك يتعذر حصرها، وهي معلومة، فلا ينكر الرق في الإسلام، إلا مكابر أو ملحد أو من لا يؤمن بكتاب الله، ولا بسنة رسوله.
وقد قدمنا حكمة الملك بالرق وإزالة الإشكال في ملك الرقيق المسلم في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى:
{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَم } [الإسراء: 9].
ومن المعلوم أن كثيراً من أجلاء علماء المسلمين ومحدثيهم الكبار كانوا أرقاء مملوكين، أو أبناء أرقاء مملوكين.
فهذا محمد بن سيرين كان أبوه سيرين عبداً لأنس بن مالك.
وهذا مكحول كان عبداً لامرأة من هذيل فأعتقته.
ومثل هذا أكثر من أن يحصى كما هو معلوم.
واعلم أن ما يدعيه بعض من المتعصبين، لنفي الرق في الإسلام من أن آية القتال هذه دلت على نفي الرق من أصله، لأنها أوجبت واحداً من أمرين لا ثالث لهما، وهما المن والفداء فقط فهو استدلال ساقط من وجهين:
أحدهما أن فيه استدلالاً بالآية، على شيء لم يدخل فيها، ولم تتناوله أصلا، والاستدلال إن كان كذلك فسقوطه كما ترى.
وإيضاح ذلك أن هذه الآية التي فيها تقسيم حكم الأسارى، إلى من وفداء، لم تتناول قطعاً إلا الرجال المقاتلين من الكفار لأن قوله { فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ }، وقوله: { حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ }. صريح في ذلك كما ترى.
وعلى إثخان هؤلاء المقاتلينَ رتب بالفاء قوله: { فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاق }الآية.
فظهر أن الآية لم تتناول أنثى ولا صغيراً ألبتة.
ويزيد ذلك إيضاحاً أن النهي عن قتل نساء الكفار وصبيانهم ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثر أهل الرق في أقطار الدنيا إنما هو من النساء والصبيان.
ولو كان الذي يدعي نفي الرق من أصله يعترف بأن الآية، لا يمكن أن يستدل بها على شيء غير الرجال المقاتلين، لقصر نفي الرق الذي زعمه على الرجال الذين أسروا، في حال كونهم مقاتلين، ولو قصره على هؤلاء، لم يمكنه أن يقول بنفي الرق من أًصله كما ترى.
الوجه الثاني: هو ما قدمنا من الأدلة على ثبوت الرق في الإسلام. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:
{ حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي إذا لقيتم الكفار فاضربوا أعناقهم { حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ } قتلاً فأسروهم { حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي حتى تنتهي الحرب.
وأظهر الأقوال في معنى وضع الحرب أوزارها أنه وضع السلاح، والعرب تسمي السلاح وزراً، وتطلق العرب الأوزار على آلات الحرب وما يساعد فيها كالخيل، ومنه قول الأعشى:

وأعددت للحرب أوزارها رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا

وفي معنى أوزار الحرب، أقوال أخر معروفة تركناها، لأن هذا أظهرها عندنا. والعلم عند الله تعالى.