التفاسير

< >
عرض

وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً
١
فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً
٢
فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً
٣
فَٱلْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً
٤
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ
٥
وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٱقِعٌ
٦
-الذاريات

أضواء البيان في تفسير القرآن

أكثر أهل العلم، على أن المراد بالذاريات الرياح. وهو الحق إن شاء الله، ويدل عليه أن الذرو صفة مشهورة من صفات الرياح.
ومنه قوله تعالى
{ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ ٱلرِّياحُ } [الكهف: 45]، ومعنى تذروه: ترفعه وتفرقه، فهي تذرو التراب والمطر وغيرهما، ومنه قول ذي الرمة:

ومنهل آجن قفر محاضره تذرو الرياح على جماته البعرا

ولا يخفى سقوط قول من قال: إن الذاريات النساء.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً } أكثر أهل العلم على أن المراد بالحاملات وقراً: السحاب. أي المزن تحمل وقراً ثقلاً من الماء.
ويدل لهذا القول تصريح الله جل وعلا بوصف السحاب بالثقال، وهو جمع ثقيلة، وذلك لثقل السحابة بوقر الماء الذي تحمله كقوله تعالى
{ وَيُنْشِىءُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ } [الرعد: 12]، وهو جمع سحابة ثقيلة، وقوله تعالى { حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } [الأعراف: 57].
وقال بعضهم: المراد بالحاملات وقراً: السفن تحمل الأثقال من الناس وأمتعتهم، ولو قال قائل: إن الحاملات وقراً الرياح أيضاً كان وجهه ظاهراً.
ودلالة بعض الآيات عليه واضحة، لأن الله تعالى صرح بأن الرياح تحمل السحاب الثقال بالماء، وإذا كانت الرياح هي التي تحمل السحاب إلى حيث شاء الله، فنسبه حمل ذلك الوقر إليها أظهر من نسبته إلى السحاب التي هي محمولة للرياح، وذلك في قوله تعالى
{ وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } [الأعراف: 57] الآية.
فقوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً }: أي حتى إذا حملت الرياح سحاباً ثقالاً، فالإقلال الحمل، وهو مستند إلى الريح. ودلالة هذا على أن الحاملات وقراً هي الرياح ظاهرة كما ترى، ويصح شمول الآية لجميع ذلك.
وقد قدمنا مراراً أنه هو الأجود في مثل ذلك، وبينا كلام أهل الأصول فيه، وكلامهم في حمل المشترك على معنييه أو معانيه، في أول سورة النور وغيرها.
والقول بأن الحاملات وقراً: هي حوامل الأجنة من الإناث، ظاهر السقوط، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { فَٱلْجَارِيَاتِ يُسْراً } [الذاريات: 3] أكثر أهل العلم على أن المراد بالجاريات يسراً: السفن تجري في البحر يسراً أي جرياً ذا يسر أي سهولة.
والأظهر أن هذا المصدر المنكر حال كما قدمنا نحوه مراراً: أي فالجاريات في حال كونها ميسرة مسخراً لها البحر، ويدل لهذا القول كثرة إطلاق الوصف بالجري على السفن كقوله تعالى:
{ وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلْجَوَارِ فِي ٱلْبَحْرِ } [الشورى: 32]. الآية، وقوله: { إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي ٱلْجَارِيَةِ } [الحاقة: 11]، وقوله تعالى { وَٱلْفُلْكَ تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } [الحج: 65] وقوله تعالى: { ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ } .[الجاثية: 12] إلى غير ذلك من الآيات.
وقيل الجاريات الرياح. وقيل غير ذلك.
وقوله تعالى: { فَٱلْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً }: هي الملائكة يرسلها الله في شؤون وأمور مختلفة، ولذا عبر عنها بالمقسمات، ويدل لهذا قوله تعالى:
{ فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } [النازعات: 5]، فمنهم من يرسل لتسخير المطر والريح، ومنهم من يرسل لكتابة الأعمال، ومنهم من يرسل لقبض الأرواح، ومنهم من يرسل لإهلاك الأمم، كما وقع لقوم صالح.
والتحقيق أن قوله: أمراً مفعول به للوصف الذي هو المقسمات، وهو مفرد أريد به الجمع.
وقد أوضحنا أمثلة ذلك في القرآن العظيم، وفي كلام العرب من تنكير المفرد كما هنا، وتعريفه وإضافته في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى:
{ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [الحج: 5]، والمقسم عليه بهذه الأقسام هو قوله: { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَاقِعٌ } [الذاريات: 5-6] والموجب لهذا التوكيد هو شدة إنكار الكفار للبعث والجزاء.
وقوله: { إِنَّمَا تُوعَدُونَ } ما، فيه موصولة والعائد إلى الصلة محذوف، والوصف بمعنى المصدر أي إن الذي توعدونه من الجزاء والحساب لصدق لا كذب فيه.
وقال بعض العلماء: ما، مصدرية، أي إن الوعد بالبعث والجزاء والحساب لصادق.
وقال بعضهم: إن صيغة اسم الفاعل في لصادق بمعنى اسم المفعول. أي إن الوعد أو الموعود به لمصدوق فيه لا مكذوب به، ونظير ذلك قوله تعالى:
{ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [الحاقة: 21] أي مرضية.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من صدق ما يوعدونه جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى:
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } [آل عمران: 9]. وقوله: { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ } [الأنعام: 134]. وقوله تعالى: { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } [الواقعة: 2] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
والمراد بالدين هنا الجزاء، أي وإن الجزاء يوم القيامة لواقع لا محالة كما قال تعالى
{ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ } [النور: 25] أي جزاءهم بالعدل والإنصاف، وكقوله تعالى: { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ } [النجم: 40-41].
وقد نزه الله نفسه عن كونه خلق الخلق لا لبعث وجزاء، وبين أن ذلك ظن الكفار، وهددهم على ذلك الظن السىء بالويل من النار، قال تعالى منكراً على من ظن عدم البعث والجزاء، ومنزهاً نفسه عن أنه خلقهم. عبثاً لا لبعث وجزاء:
{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ } [المؤمنون: 115-116]. وقال تعالى: { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ } [ص: 27]، في قوله في آية في ص هذه: باطلاً أي عبثاً لا لبعث وجزاء.