التفاسير

< >
عرض

وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْحُبُكِ
٧
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ
٨
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ
٩
-الذاريات

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { ذَاتِ الْحُبُكِ } فيه للعلماء أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضاً، فذهب بعض أهل العلم، إلى أن الحبك جمع حبيكة أو حباك، وعليه فالمعنى ذات الحبك أي ذات الطرائق، فما يبدو على سطح الماء الساكن أو الرمل من الطرائق إذا ضربته الريح هو الحبك، وهو جمع حبيكة أو حباك، قالوا: ولبعد السماء لا ترى طرائقها المعبر عنها بالحبك، ومن هذا المعنى قول زهير:

مكلل بأصول النجم تنسجه ريح خريق بضاحي مائة حبك

وقول الراجز:

كأنما جللها الحواك طنفسة في وشيها حباك

وممن نقل عنه هذا القول الكلبي والضحاك.
وقال بعض أهل العلم: ذات الحبك أي ذات الخلق الحسن المحكم، وممن قال به ابن عباس وعكرمة وقتادة.
وهذا الوجه يدل عليه قوله تعالى:
{ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتِ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } [الملك: 3-4] إلى غير ذلك من الآيات.
وعلى هذا القول فالحبك مصدر، لأن كل عمل أتقنه عامله وأحسن صنعه، تقول فيه العرب: حبكه حبكاً بالفتح على القياس. والحبك بضمتين بمعناه.
وقال بعض العلماء: ذات الحبك: أي الزينة.
وممن روي عنه هذا سعيد بن جبير والحسن، وعلى هذا القول، فالآية كقوله:
{ وَلَقَدْ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } [الملك: 5]، وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في ق في الكلام على قوله { أَفَلَمْ يَنظُرُوۤاْ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا } [ق: 6] الآية.
وقال بعض العلماء: ذات الحبك أي ذات الشدة، وهذا القول يدل له قوله تعالى:
{ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } [النبأ: 12].
والعرب تسمى شدة الخلق حبكاً، ومنه قيل للفرس الشديد الخلق: محبوك.
ومنه قول امرئ القيس.

قد غدا يحملني في أنفه لاحق الأطلين محبوك ممر

والآية تشمل الجميع، فكل الأقوال حق والمقسم عليه في هذه الآية هو قوله تعالى { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } [الذاريات: 8] أي إنكم أيها الكفار لفي قول مختلف في شأن النبي صلى الله عليه وسلم وشأن القرآن، لأن بعضهم يقول: هو شعر، وبعضهم يقول: سحر، وبعضهم يقول: كهانة، وبعضهم يقول: أساطير الأولين، وقول من قال في قول مختلف أي لأن بعضهم مصدق، وبعضهم مكذب خلاف التحقيق.
ويدل على أن الاختلاف إنما هو بين المكذبين دون المصدقين. قوله تعالى في ق
{ بَلْ كَذَّبُواْ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِيۤ أَمْرٍ مَّرِيجٍ } .[ق: 5] أي مختلط. وقال بعضهم: مختلف، والمعنى واحد.
وقوله تعالى: { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [الذاريات: 9] أظهر الأقوال فيه عندي ولا ينبغي العدول عنه في نظري، أن لفظة عن في الآية سببية كقوله تعالى:
{ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِيۤ آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ } [هود: 53] أي بسبب قولك، ومن أجله، والضمير المجرور بعن راجع إلى القول المختلف، والمعنى يؤفك أي يصرف عن الإيمان بالله ورسوله عنه، أي عن ذلك القول المختلف أي بسببه من أفك أي من سبقت له الشقاوة في الأزل، فحرم الهدى وأفك عنه، لأن هذا القول المختلف يكذب بعضه بعضاً ويناقضه.
ومن أوضح الأدلة على كذب القول وبطلانه اختلافه وتناقضه كما لا يخفى، فهذا القول المختلف الذي يحاول كفار مكة أن يصدوا به الناس عن الإسلام، الذي يقول فيه بعضهم: إن الرسول ساحر، وبعضهم يقول شاعر، وبعضهم يققول: كذاب. ظاهر البطلان لتناقضه وتكذيب بعضه لبعض، فلا يصرف عن الإسلام بسببه إلا من صرف، أي صرفه الله عن الحق لشقاوته في الأزل فمن لم يكتب عليه في سابق علم الله الشقاوة والكفر لا يصرفه عن الحق قول ظاهر الكذب والبطلان لتناقضه.
وهذا المعنى جاء موضحاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى:
{ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ ٱلْجَحِيمِ } [الصافات: 161-163] ومعنى هذه الآية أن دين الكفار، الذي هو الشرك بالله وعبادة الأوثان، مع حرصهم على صد الناس عن دين الإسلام إليه ما هم بفاتنين، أي ليسا بمضلين عليه أحداً لظهور فساده وبطلانه إلا من هو صال الجحيم، أي إلا من قدر الله عليه الشقاوة وأنه من أهل النار في سابق علمه، هذا هو الظاهر لنا في معنى هذه الآية الكريمة.
وأكثر المفسرين على أن الضمير في قوله: { يُؤْفَكُ عَنْهُ } راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو القرآن، أي يصرف عن الإيمان بالنبي أو القرآن، من أفك أي صرف عن الحق، وحرم الهدي لشدة ظهور الحق في صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن منزل من الله، وهذا خلاف ظاهر السياق كما ترى.
وقول من قال: يؤفك عنه.أي يصرف عن القول المختلف الباطل من أفك، أي من صرف عن الباطل إلى الحق لا يخفى بعده وسقوطه.
والذين قالوا: هذا القول يزعمون أن الإفك يطلق على الصرف عن الحق إلى الباطل، وعن الباطل إلى الحق، ويبعد هذا أن القرآن لم يرد فيه الإفك مراد به إلا الصرف عن الخير إلى الشر دون عكسه.