التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ ٱلنُّذُرُ
٤١
كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ
٤٢
-القمر

أضواء البيان في تفسير القرآن

تضمنت هاتان الآيتان ثلاثة أمور:
الأول: أن آل فرعون جاءتهم النذر.
الثاني: أنهم كذبوا بآيات الله.
الثالث: أن الله أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وهذه الأمور الثلاثة المذكورة هنا جاءت موضحة في آيات أخر من كتاب الله، أما الأول منها وهو أن آل فرعون وقومه جاءهم النذر، فقد أوضحه تعالى في آيات كثيرة من كتابه.
اعلم أولاً أن قوله { جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ ٱلنُّذُرُ } [القمر: 41]، قيل: هو جمع نذير وهو الرسول: وقيل هو مصدربمعنى الإنذار فعلى أنه مصدر.
فقد بينت الآيات القرآنية بكثرة أن الذي جاءهم بذلك الإنذار هو موسى وهارون، وعلى أنه جمع نذير أي منذر، فالمراد به موسى وهارون، وقد جاء في آيات كثيرة إرسال موسى وهارون لفرعون كقوله تعالى في طه:
{ فَأْتِيَاهُ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ } [طه: 47].
ثم بين تعالى إنذارهما له في قوله
{ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ ٱلْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } [طه: 48] ونحوها من الآيات، وفي هذه الآية سؤال معروف، وهو أن الله تبارك وتعالى أرسل لفرعون نبيين هما موسى وهارون، كما قال تعالى: { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء: 16] وهنا جمع النذر في قوله { وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ ٱلنُّذُر }، وللعلماء عن هذا أجوبة. أحدها أن أقل الجمع اثنان كما هو المقرر في أصول مالك بن أنسرحمه الله ، وعقده صاحب مراقي السعود بقوله:

أقل معنى الجمع في المشتهر لاثنان في رأي الإمام الحمير

قالوا، ومنه قوله تعالى: { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [التحريم: 4] ولهما قلبان فقط وقوله: { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ ٱلسُّدُسُ } [النساء: 11] والمراد بالإخوة اثنان فصاعداً كما عليه الصحابة فمن بعدهم خلافاً لابن عباس، وقوله { { وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ } [طه: 130] وله طرفان. ومنها ما ذكره الزمخشري وغيره من أن المراد بالنذر موسى وهارون وغيرهما من الأنبياء، لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون. ومنها أن النذر مصدر بمعنى الإنذار.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: التحقيق في الجواب، أن من كذب رسولاً واحداً فقد كذب جميع المرسلين، ومن كذب نذيراً واحداً فقد كذب جميع النذر، لأن أصل دعوة جميع الرسل واحدة، وهي مضمون لا إله إلا الله كما أوضحه تعالى بقوله:
{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ } [النحل: 36] وقوله تعالى: { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ } [الأنبياء: 25]. وقوله تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [الزخرف: 45].
وأوضح تعالى أن من كذب بعضهم فقد كذب جميعهم في قوله تعالى:
{ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ حَقّاً } [النساء: 150-151] الآية، وأشار إلى ذلك في قوله: { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [البقرة: 285]. وقوله { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة: 136] وقوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَـٰئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ } [النساء: 152] الآية.
وقد أوضح تعالى في سورة الشعراء أن تكذيب رسول واحد تكذيب لجميع الرسل، وذلك في قوله:
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ ٱلْمُرْسَلِينَ } [الشعراء: 105] ثم بين أن تكذيبهم للمرسلين إنما وقع بتكذيبهم نوحاً وحده، حيث فرد ذلك بقوله: { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } [الشعراء: 106] - إلى قوله - { قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ } [الشعراء: 117] وقوله تعالى: { كَذَّبَتْ عَادٌ ٱلْمُرْسَلِينَ } [الشعراء: 123]، ثم بين أن ذلك بتكذيب هود وحده، حيث فرده بقوله: { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } [الشعراء: 124] ونحو ذلك في قوله تعالى في قصة صالح وقومه، ولوط وقومه، وشعيب وأصحاب الأيكة، كما هو معلوم، وهو واضح لا خفاء فيه، ويزيده إيضاحاً قوله صلى الله عليه وسلم "إنا معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد" يعني أنهم كلهم متفقون في الأصول وإن اختلفت شرائعهم في بعض الفروع.
وأما الأمر الثاني: وهو كون فرعون وقومه كذبوا بآيات الله، فقد جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى:
{ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } [الأعراف: 132]، وقوله تعالى: { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ } [طه: 56]. وقوله تعالى: { فَأَرَاهُ ٱلآيَةَ ٱلْكُبْرَىٰ فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ } [النازعات: 20-21]. وقوله تعالى: { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوۤءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } [النمل: 12-14].
وأما الأمر الثالث وهو قوله تعالى:
{ فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ } [القمر: 42]، فقد جاء موضحاً في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: { وَفِي مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } [الذاريات: 38] - إلى قوله - { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ } [الذاريات: 40] وقوله تعالى: { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ ٱلْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } [طه: 78] وقوله تعالى: { وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } [البقرة: 50] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله: { أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِر } يوضحه قوله تعالى:
{ وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود: 102].
وقد روى الشيخان في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم تلا قوله تعالى { وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ } الآية" ، والعزيز الغالب، والمقتدر: شديد القدرة عظيمها.