التفاسير

< >
عرض

فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ
٣٩
-الرحمن

أضواء البيان في تفسير القرآن

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أنه يوم القيامة لا يسأل إنساً ولا جاناً عن ذنبه، وبين هذا المعنى في قوله تعالى في القصص: { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ } [القصص: 78].
وقد ذكر جل وعلا في آيات أخر أنه يسأل جميع الناس يوم القيامة الرسل والمرسل إليهم، وذلك في قوله تعالى:
{ فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ } [الأعراف: 6]، وقوله { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [الحجر: 92-93].
وقد جاءت آيات من كتاب الله مبينة لوجه الجمع بين هذه الآيات، التي قد يظن غير العالم أن بينها اختلافاً، اعلم أولاً أن للسؤال المنفي في قوله هنا { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ }، وقوله { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ } أخص من السؤال المثبت في قوله { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }، لأن هذه فيها تعميم السؤال في كل عمل، والآيتان قبلها ليس فيهما نفي السؤال إلا عن الذنوب خاصة وللجمع بين هذه الآيات أوجه معروفة عند العلماء.
الأول منها: وهو الذي دل عليه القرآن، وهو محل الشاهد عندنا من بيان القرآن بالقرآن هنا، هو أن السؤال نوعان: أحدهما سؤال التوبيخ والتقريع وهو من أنواع العذاب، والثاني هو سؤال الاستخبار والاستعلام.
فالسؤال المنفي في بعض الآيات هو سؤال الاستخبار والاستعلام، لأن الله أعلم بأفعالهم منهم أنفسهم كما قال تعالى:
{ أَحْصَاهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُ } [المجادلة: 6].
وعليه فالمعنى لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان، سؤال استخبار واستعلام لأن الله أعلم بذنبه منه.
والسؤال المثبت في الآيات الأخرى هو سؤال التوبيخ والتقريع، سواء كان عن ذنب أو غير ذنب، ومثال سؤالهم عن الذنوب سؤال توبيخ وتقريع قوله تعالى:
{ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } [آل عمران: 106]، ومثاله عن غير ذنب قوله تعالى: { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ ٱلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ } [الصافات: 24-26] وقوله تعالى { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا } [الطور: 13-15] الآية، وقوله { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُم } [الأنعام: 130].
أما سؤال الموءودة في قوله:
{ وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ } [التكوير: 8] فلا يعارض الآيات النافية السؤال عن الندب، لأنها سئلت عن أي ذنب قتلت وهذا ليس من ذنبها، والمراد بسؤالها توبيخ قاتلها وتقريعه، لأنها هي تقول لا ذنب لي، فيرجع اللوم على من قتلها ظلماً.
وكذلك سؤال الرسل، فإن المراد به توبيخ من كذبهم وتقريعه، مع إقامة الحجة عليه بأن الرسل قد بلغته، وباقي أوجه الجمع بين الآيات لا يدل عليه قرآن، وموضع هذا الكتاب بيان القرآن بالقرآن، وقد بينا بقيتها في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في أول سورة الأعراف.
وقد قدمنا طرفاً في هذا الكتاب المبارك في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى:
{ فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ } [الأعراف: 6].