التفاسير

< >
عرض

وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ
٤٧
-الواقعة

أضواء البيان في تفسير القرآن

لما ذكر جل وعلا ما أعد لأصحاب الشمال من العذاب، بين بعض أسبابه، فذكر منها أنهم كانوا قبل ذلك في دار الدنيا مترفين أي متنعمين، وقد قدمنا أن القرآن دل على أن الإتراف والتنعم والسرور في الدنيا من أسباب العذاب يوم القيامة، لأن صاحبه معرض عن الله لا يؤمن به ولا برسله، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وقوله تعالى: { فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَىٰ سَعِيراً إِنَّهُ كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً } [الانشقاق: 11-13]، وقد أوضحنا هذا في الكلام على آية الطور المذكورة آنفاً.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كون إنكار البعث سبباً لدخول النار، لأن قوله تعالى لما ذكر أنهم في سموم وحميم وظل من يحموم، بين أن من أسباب ذلك أنهم قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً } الآية جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى
{ وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ } [الرعد: 5].
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى:
{ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِٱلسَّاعَةِ سَعِيراً } [الفرقان: 11]، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من إنكارهم بعث آبائهم الأولين في قوله { أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ } وأنه تعالى بين لهم أنه يبعث الأولين والآخرين في قوله، { قُلْ إِنَّ ٱلأَوَّلِينَ وَٱلآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [الواقعة: 49-50] جاء موضحاً في غير هذا الموضع، فبينا فيه أن البعث الذي أنكروا، سيتحقق في حال كونهم أذلاء صاغرين، وذلك في قوله تعالى في الصافات { وَقَالُوۤاْ إِن هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ } [الصافات: 15-19]. وقوله: { أَوَ آبَآؤُنَا ٱلأَوَّلُونَ }، قرأه عامة القراء السبعة، غير ابن عامر وقالون عن نافع: { أَوَ ءَابَآؤُنَا } بفتح الواو على الاستفهام والعطف، وقد قدمنا مراراً أن همزة الاستفهام إذا جاءت بعدها أداة عطف كالواو والفاء، وثم نحو { أَوَ ءَابَآؤُنَا } { أَفَأَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَىٰ } [الأعراف: 97] { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ } [يونس: 51]، أن في ذلك وجهين لعلماء العربية والمفسرين الأول منهما أن أداة العطف عاطفة للجملة المصدرة بالاستفهام على ما قبلها، وهمزة الاستفهام متأخرة رتبة عن حرف العطف، ولكنها قدمت عليه لفظاً لا معنى لأن الأصل في الاستفهام التصدير به كما هو معلوم في محله.
والمعنى على هذا واضح وهو أنهم أنكروا بعثهم أنفسهم بأداة الإنكار التي هي الهمزة، وعطفوا على ذلك بالواو إنكارهم بعث آبائهم الأولين، بأداة الإنكار التي هي الهمزة المقدمة عن محلها لفظاً لا رتبة، وهذا القول هو قول الأقدمين من علماء العربية، واختاره أبو حيان في البحر المحيط وابن هشام في مغني اللبيب، وهو الذي صرنا نميل إليه أخيراً بعد أن كنا نميل إلى غيره.
الوجه الثاني: هو أن همزة الاستفهام في محلها الأصلي، وأنها متعلقة بجملة محذوفة، والجملة المصدرية بالاستفهام معطوفة على المحذوف بحرف العطف الذي بعد الهمزة، وهذا الوجه يميل إليه الزمخشري في أكثر المواضع من كشافه، وربما مال إلى غيره.
وعلى هذا القول، فالتقدير: أمبعوثون نحن وآباؤنا الأولون؟ وما ذكره الزمخشري هنا من أن قوله:
{ ءَابَآؤُنَا } [الواقعة: 48] معطوف على واو الرفع في قوله: { لَمَبْعُوثُونَ }، وأنه ساغ العطف على ضمير رفع متصل من غير توكيد بالضمير المنفصل لأجل الفصل بالهمزة لا يصح، وقد رده عليه أبو حيان وابن هشام وغيرهما.
وهذا الوجه الأخير مال إليه ابن مالك في الخلاصة في قوله:

وحذف متبوع بداهنا استبح وعطفك الفعل على الفعل يصح

وقرأ هذا الحرف قالون وابن عامر أو آباؤنا بسكون الواو، والذي يظهر لي على قراءتهما أو بمعنى الواو العاطفة، وأن قوله: { ءَابَآؤُنَا }، معطوف على محل المنصوب الذي هو اسم إن، لأن عطف المرفوع على منصوب إن بعد ذكر خبرها جائز بلا نزاع، لأن اسمها وإن كان منصوباً فأصله الرفع لأنه مبتدأ في الأصل، كما قال ابن مالك في الخلاصة:

وجائز رفعك معطوفاً على منصوب إن بعد أن تستكملا

وإنما قلنا إن أو بمعنى الواو، لأن إتيانها بمعنى الواو معروف في القرآن وفي كلام العرب، فمنه في القرآن: { فَٱلْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً } [المرسلات: 5-6] لأن الذكر الملقى للعذر، والنذر معاً لا لأحدهما، لأن المعنى أنها أتت الذكر إعذاراً وإنذاراً، وقوله تعالى: { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [الإنسان: 24] أي ولا كفوراً، وهو كثير في كلام العرب، ومنه قول عمرو بن معد يكرب:

قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم ما بين ملجم مهرة أو سافع

فالمعنى ما بين الملجم مهره وسافع: أي آخذ بناصيته ليلجمه، وقول نابغة ذبيان:

قالت ألا ليت ما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد
فحسبوه فألفوه كما زعمت ستا وستين لم تنقص ولم تزد

فقوله: أو نصفه بمعنى ونصفه كما هو ظاهر من معنى البيتين المذكورين، لأن مرادها أنهما تمنت أن يكون الحمام المار بها هو ونصفه معه لها مع حمامتها التي معها، ليكون الجميع مائة حمامة، فوجدوه ستاً وستين ونصفها ثلاث وثلاثون، فيكون المجموع تسعاً وتسعين، والمروي في ذلك عنها أنها قالت:

ليت الحمام ليه إلى حمامتيه
ونصفه قديه تم الحمام مايه

وقول توبة بن الحمير:

قد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها

وقوله تعالى: { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [الواقعة: 47] جمع عامة القراء على ثبات همزة الاستفهام في قوله: { أَئِذَا مِتْنَا } وأثبتها أيضاً عامة السبعة غير نافع والكسائي في قوله: { أَءِنَّا } وقرأه نافع والكسائي { أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ }، بهمزة واحدة مكسورة على الخبر، كما عقده صاحب الدرر اللوامع في أصل مقرأ الإمام منافع بقوله:

فصل واستفهام إن تكررا فصير الثاني منه خبرا
واعكسه في النمل وفوق الروم إلخ............ ....

والقراءات في الهمزتين في { أَئِذَا } و { أإنا } معروفة، فنافع يسهل الهمزة الثانية بين بين. ورواية قالون عنه هي إدخال ألف بين الهمزتين الأولى المحققة والثانية المسهلة.
ورواية قالون هذه عن نافع بالتسهيل والإدخال مطابقة لقراءة أبي عمرو، فأبو عمرو وقالون عن نافع يسهلان ويدخلان، ورواية ورش عن نافع هي تسهيل الأخيرة منها بين بين من غير إدخال ألف. وهذه هي قراءة ابن كثير وورش فابن كثير وورش يسهلان ولا يدخلان.
وقرأ هشام عن ابن عامر بتحقيق الهمزتين، وبينهما ألف الإدخال.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن عامر بتحقيق الهمزتين من غير ألف الإدخال، هذه هي القراءات الصحيحة، في مثل { أإذا } و { أَءِنَّا } ونحو ذلك في القرآن.
تنبيه
اعلم وفقني الله وإياك أن ما جرى في الأقطار الافريقية من إبدال الأخيرة من هذه الهمزة المذكورة وأمثالها في القرآن هاء خالصة من أشنع وأعظم الباطل، وهو انتهاك لحرمة القرآن العظيم، وتعد لحدود الله، ولا يعذر فيه إلا الجاهل الذي لا يدري، الذي يظن أن القراءة بالهاء صحيحة، وإنما قالا هذا لأن إبدال الهمزة فيما ذكر هاء خالصة لم يروه أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل عليه به جبريل ألبتة، ولم يرو عن صحابي ولم يقرأ به أحد من القراء، ولا يجوز بحال من الأحوال، فالتجرؤ على الله بزيادة حرف في كتابه، وهو هذه الهاء التي لم ينزل بها الملك من السماء ألبتة، هو كما ترى، وكون اللغة العربية قد سمع فيها إبدال الهمزة هاء لا يسوغ التجرؤ على الله بإدخال حرف في كتابه. لم يأذن بإدخاله الله ولا رسوله.
ودعوى أن العمل جرى بالقراءة بالهاء لا يعول عليها، لأن جريان العمل بالباطل باطل، ولا أسوة في الباطل بإجماع المسلمين، وإنما الأسوة في الحق، والقراءة سنة متبعة مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لا خلاف فيه.
وقوله تعالى: { مِتْنَا } وقرأه ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو وشعبة عن عاصم متنا بضم الميم وقرأه نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم { مِتْنَا } بكسر الميم، وقد قدمنا مسوغ كسر الميم لغة في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى:
{ يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا } [مريم: 23].