التفاسير

< >
عرض

إِذَا رُجَّتِ ٱلأَرْضُ رَجّاً
٤
وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً
٥
فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً
٦
-الواقعة

أضواء البيان في تفسير القرآن

قد قدمنا أن الأظهر عندنا أن قوله { إِذَا رُجَّتِ }. بدل من قوله { إِذَا وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } { الواقعة: 1]، والرج: التحريك الشديد، وما دلت عليه هذه الآية من أن الأرض يوم القيامة تحرك تحريكاً شديداً جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى: { إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلأَرْضُ زِلْزَالَهَا } [الزلزلة: 1]، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى: { إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } [الحج: 1] وقوله تعالى: { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } في معناه لأهل العلم أوجه متقاربة، لا يكذب بعضها بعضاً وكلها حق، وكلها يشهد له قرآن.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية الكريمة قد يكون فيها أوجه كلها حق وكلها يشهد له قرآن، فنذكر جميع الأوجه وأدلتها القرآنية.
قال أكثر المفسرين { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } أي فتت تفتيتاً حتى صارت كالبسيسة، وهي دقيق ملتوت بسمن، ومنه قول لص من غطفان أراد أن يخبز دقيقاً عنده فخاف أن يعجل عنه، فأمر صاحبيه أن يلتاه ليأكلوه دقيقاً ملتوتاً، وهو البسيسة.

لا تخبزا خبزاً وبسابسا ولا تطيلا بمناخ حبسا

وهذا الوجه يشهد له قرآن كقوله تعالى: { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً } [المزمل: 14]، فقوله: { كَثِيباً مَّهِيلاً } أي رملاً متهايلاً، ومنه قول امرئ القيس:

ويوماً على ظهر الكثيب تعذرت علي وآلت حلفة لم تحلل

ومشابهة الدقيق المبسوس بالرمل المتهايل واضحة، فقوله: { وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلا } مطابق في المعنى لتفسير { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } بأن بسها هو تفتيتها وطحنها كما ترى.
وما دلت عليه هذه الآيات من أنها تسلب عنها قوة الحجرية وتتصف بعد الصلابة والقوة باللين الشديد الذي هو كلين الدقيق، والرمل المتهايل يشهد له في الجملة تشبيهها في بعض الآيات بالصوف المنفوش الذي هو العهن، كقوله تعالى:
{ وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ } [القارعة: 5]، وقوله تعالى: { يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ } [المعارج: 8-9] وأصل العهن أخص من مطلق الصوف لأنه الصوف المصبوغ خاصة. ومنه قول زهير بن أبى سلمى في معلقته:

كأن فتاة العهن في كل منزل نزلن به حب الفنا لم يحطم

وقال بعضهم: الجبال منها جدد بيض وحمر ومختلف ألوانه وغرابيب سود، فإذا بست وفتتت يوم القيامة وطيرت في الجو أشبهت العهن إذا طيرته الريح في الهوى، وهذا الوجه يدل عليه ترتيب كينونتها هباء منبثاً بالفاء على قوله: { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } لأن الهباء هو ما ينزل من الكوة من شعاع الشمس إذا قابلتها: { مُّنبَثّاً } أي متفرقاً، ووصفها بالهباء المنبث أنسب لكون البس بمعنى التفتيت والطحن.
الوجه الثاني: أن معنى قوله: { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } أي سيرت بين السماء والأرض، وعلى هذا فالمراد ببسها سوقها وتسييرها من قول العرب: بسست الإبل أبسها، بضم الباء وأبستها أبسها بضم الهمزة وكسر الباء، لغتان بمعنى سقتها، ومنه حديث:
"يخرج أقوام من المدينة إلى اليمن والشام، والعراق يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون"
وهذا الوجه تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى: { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ } [الكهف: 47] الآية، وقوله { وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً } [الطور: 10].
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة النمل في الكلام على قوله:
{ وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ } [النمل: 88].
الوجه الثالث: أن معنى قوله: { وَبُسَّتِ ٱلْجِبَالُ بَسّاً } نزعت من أماكنها وقلعت، وقد أوضحنا أن هذا الوجه راجع للوجه الأول مع الإيضاح التام لأحوال الجبال يوم القيامة، وأطوارها، بالآيات القرآنية، وفي سورة طه في الكلام على قوله تعالى:
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [طه: 105] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } كقوله تعالى: { وَسُيِّرَتِ ٱلْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً } [النبأ: 20] والهباء إذا انبث، أي تفرق، واضمحل وصار لا شيء، والسراب قد قال الله تعالى فيه: { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } [النور: 39].