التفاسير

< >
عرض

نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ
٦٠
عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـٰلَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٦١
-الواقعة

أضواء البيان في تفسير القرآن

قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير ابن كثير { قَدَّرْنَا } بتشديد الدال، وقرأه ابن كثير بتخفيفها، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية الكريمة قد يكون فيها وجهان أو أكثر من التفسير، ويكون كل ذلك صحيحاً، وكله يشهد له قرآن، فنذكر الجميع وأدلته من القرآن، ومن ذلك هذه الآية الكريمة.
وإيضاح ذلك أن قوله { قَدَّرْنَا } وجهين من التفسير وفيما تتعلق به { عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ } وجهان أيضاً، فقال بعض العلماء: وهو اختيار ابن جرير أن قوله { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ } أي قدرنا لموتكم آجالاً مختلفة وأعماراً متفاوتة فمنكم من يموت صغيراً ومنكم من يموت شاباً، ومنكم من يموت شيخاً.
وهذا المعنى دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى
{ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ } [الحج: 5] وقوله تعالى { ثُمَّ لِتَكُـونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوۤاْ أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّـكُمْ تَعْقِلُونَ } [غافر: 67] وقوله تعالى { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } [فاطر: 11] وقوله تعالى: { وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ } [المنافقون: 11] وقوله { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي ما نحن بمغلوبين، العرب تقول: سبقه على كذا أي غلبه عليه وأعجزه عن إدراكه أي وما نحن بمغلوبين على ما قدرنا من آجالكم وحددناه من أعماركم فلا يقدر أحد أن يقدم أجلاً أخرناه ولا يؤخر أجلاً قدمناه.
وهذا المعنى دلت عليه آيات كثيرة كقوله تعالى
{ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [الاعراف: 34] وقوله تعالى { إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ } [نوح: 4] الآية، وقوله تعالى { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } [آل عمران: 145] إلى غير ذلك من الآيات.
وعلى هذا القول، فقوله تعالى: { عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ } ليس متعلقاً بمسبوقين بل بقوله تعالى: { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ } والمعنى: نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم، أي نبدل من الذين ماتوا أمثالاً لهم نوجدهم.
وعلى هذا، فمعنى تبديل أمثالهم إيجاد آخرين من ذرية أولئك الذين ماتوا وهذا المعنى تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى:
{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } [الأنعام: 133] إلى غير ذلك من الآيات.
وهذا التفسير هو اختيار ابن جرير، وقراءة قدرنا بالتشديد مناسبة لهذا الوجه، وكذلك لفظة بينكم.
الوجه الثاني: أن قدرنا بمعنى قضينا وكتبنا أي كتبنا الموت وقدرناه على جميع الخلق، وهذا الوجه تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى:
{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص: 88]، وقوله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ } [آل عمران: 185]، وقوله تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ } [الفرقان: 58]، وعلى هذا القول فقوله: { عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ }: متعلق بمسبوقين أي ما نحن مغلوبين والمعنى وما نحن بمغلوبين على أن نبدل أمثالكم إن أهلكناكم لو شئنا فنحن قادرون على إهلاككم، ولا يوجد أحد يغلبنا ويمنعنا من خلق أمثالكم بدلاً منكم.
وهذا المعنى تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى:
{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذٰلِكَ قَدِيراً } [النساء: 133] وقوله تعالى: { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ } [الأنعام: 133]، وقوله تعالى: { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } [إبراهيم: 19-20] وقوله تعالى: { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } [محمد: 38] وقد قدمنا هذا في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى: { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ } الآية، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ }، فيه للعلماء أقوال متقاربة.
قال بعضهم: ننشئكم بعد إهلاككم فيما لا تعلمونه من الصور والهيئات، كأن ننشئكم قردة وخنازير، كما فعلنا ببعض المجرمين قبلكم.
وقال بعضهم: ننشئكم فيما لا تعلمونه من الصفات، فنغير صفاتكم ونجمل المؤمنين ببياض الوجوه، ونقبح الكافرين بسواد الوجوه وزرقة العيون. إلى غير ذلك من الأقوال.