التفاسير

< >
عرض

يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَٱرْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ ٱلأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ
١٤
-الحديد

أضواء البيان في تفسير القرآن

الضمير المرفوع في ينادونهم راجع إلى المنافقين والمنافقات، والضمير المنصوب راجع إلى المؤمنين والمؤمنات، وقد ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المنافقين والمنافقات إذا رأوا نور المؤمنين يوم القيامة يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، قالوا لهم: انظرونا نقتبس من نوركم، وقيل لهم جواباً لذلك: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً، وضرب بينهم بالسور المذكور أنهم ينادون المؤمنين: ألم نكن معكم، أي في دار الدنيا، كنا نشهد معكم الصلوات ونسير معكم في الغزوات وندين بدينكم؟ قالوا: بلى، أي كنتم معنا في دار الدنيا، ولكنكم فتنتم أنفسكم.
وقد قدمنا مراراً معاني الفتنة وإطلاقاتها في القرآن، وبينا أن من معاني إطلاقاتها في القرآن الضلال كالكفر والمعاصي، وهو المراد هنا أي فتنتم أنفسكم: أي أضللتموها بالنفاق الذي هو كفر باطن، ومن هذا المعنى قوله تعالى:
{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [البقرة: 193] أي لا يبقى شرك كما تقدم إيضاحه، وقوله: { وَتَرَبَصْتُمْ } التربص: الانتظار، والأظهر أن المراد به هنا تربص المنافقين بالمؤمنين الدوائر أي انتظارهم بهم نوائب الدهر أن تهلكهم، كقوله تعالى: في منافقي الأعراب المذكورين في قوله: { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ } [التوبة: 101]، { وَمِنَ ٱلأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ } [التوبة: 98] وقوله تعالى { وَٱرْتَبْتُم } أي شككتم في دين الإسلام، وشكهم المذكور هنا وكفرهم بسببه بينه الله تعالى في قوله عنهم: { إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } [التوبة: 45].
وقوله تعالى: { وَغرَّتْكُمُ ٱلأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ } الأماني جمع أمنية، وهي ما يمنون به أنفسهم من الباطل، كزعمهم أنهم مصلحون في نفاقهم، وأن المؤمنين حقاً سفهاء في صدقهم، أي في إيمانهم، كما بين تعالى ذلك في قوله:
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ } [البقرة: 11-12] الآية، وقوله تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ } [البقرة: 13] الآية، وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من كون الأماني المذكورة من الغرور الذي اغتروا به جاء موضحاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاۤ أَمَانِيِّ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوۤءًا يُجْزَ بِهِ } [النساء: 123] - إلى قوله - { وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } [النساء: 124].
وقوله: { حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ }، الأظهر أنه الموت لأنه ينقطع به العمل.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: { وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُور } هو الشيطان وعبر عنه بصيغة المبالغة، التي هي الفعول لكثرة غروره لبني آدم، كما قال تعالى
{ وَمَا يَعِدُهُمْ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } [النساء: 120].
وما ذكره جل وعلا وفي هذه الآية الكريمة، من أن الشيطان الكثير بالغرور غرهم بالله، جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى في آخر لقمان:
{ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } [لقمان: 33]، وقوله في أول فاطر { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [فاطر: 5-6] وقوله تعالى في آية لقمان وآية فاطر المذكورتين { إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ }.
وترتيبه على ذلك النهي عن أن يغرهم بالله الغرور، دليل واضح على أن مما يغرهم به الشيطان أن وعد الله بالبعث ليس بحق، وأنه غير واقع، والغرور بالضم الخديعة.