التفاسير

< >
عرض

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١
-الحشر

أضواء البيان في تفسير القرآن

تقدم للشيخرحمه الله كلام على معنى التسبيح عند قوله تعالى: { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء: 79].
وقالرحمه الله : التسبيح في اللغة الإبعاد عن السوء، وفي اصطلاح الشرع تنزيه الله جل وعلا عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله، وساقرحمه الله النصوص في تسبيح المخلوقات جميعها.
وقال في آخر المبحث: والظاهر أن قوله تعالى: { وَكُنَّا فَاعِلِينَ } مؤكد لقوله تعالى: { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْر } والموجب لهذا التأكيد أن تسخير الجبال وتسبيحها أمر عجب خارق للعادة، مظنة لأن يكذب به الكفرة الجهلة [من الجزء الرابع وذكر عند أول سورة الحديد زيادة لذلك].
وفي مذكرة الدراسة مما أملاهرحمه الله في فصل الدراسة على أول سورة الجمعة:
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ٱلْمَلِكِ ٱلْقُدُّوسِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [الجمعة: 1] قال: التسبيح التنزيه، وما التي لغير العقلاء، لتغلب غير العقلاء لكثرتهم، وكان يمكن الاكتفاء بالإحالة على ما ذكرهرحمه الله تعالى، إلا أن الحاجة الآن تدعو إلى مزيد بيان بقدر المستطاع، لتعلق المبحث بأمر بالغ الأهمية، ونحن اليوم في عصر تغلب عليه العلمانية والمادية، فنورد ما أمكن أملاً في زيادة الإيضاح.
إن أصل التسبيح من مادة سبح، والسباحة والتسبيح مشتركان في أصل المادة، فبينهما اشتراك في أصل المعنى، والسباحة في الماء ينجو بها صاحبها من الغرق، وكذلك المسبح لله والمنزه له ينجو من الشرك ويحيا بالذكر والتمجيد لله تعالى.
وقد جاء الفعل هنا بصيغة الماضي: سبح لله كما جاء في أول سورة الحديد.
قال أبو حيان عندها: لما أمر الله تعالى الخلق بالتسبيح في آخر سورة الواقعة، يعني في قوله تعالى:
{ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } [الواقعة: 95-96] جاء في أول السورة التي تليها مباشرة بالفعل الماضي، ليدل على أن التسبيح المأمور به قد فعله والتزم به كل ما في السماوات والأرض اهـ.
ومعلوم أن الفعل قد جاء أيضاً بصيغة المضارع كما في آخر هذه السورة:
{ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [الحشر: 24]، وفي أول سورة الجمعة: { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ٱلْمَلِكِ ٱلْقُدُّوسِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [الجمعة: 1]، وفي أول سورة التغابن: { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [التغابن: 1]، وهذه الصيغة تدل على الدوام والاستمرار.
بل جاء الفعل بصيغة الأمر:
{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } [الأعلى: 1]، { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } [الواقعة: 74]. وجاءت المادة بالمصدر: { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [الإسراء: 1]، { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [الروم: 17]، ليدل ذلك كله بدوام واستمرار التسبيح لله تعالى من جميع خلقه، كما سبح سبحانه نفسه، وسبحته ملائكته ورسله، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه.
وما في قوله تعالى: { مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ } من صيغ العموم، وأصل استعماله لغير العقلاء، وقد تستعمل للعاقل إذا نزل غير العاقل، كما في قوله تعالى:
{ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } [النساء: 3]، ومجيؤها هنا لغير العاقل تغليباً له لكثرته كما تقدم، فتكون شاملة للعاقل من باب أولى.
ومما يلفت النظر أن التسبيح الذي في معرض العموم كله في القرآن مسند إلى "ما" دون "من" إلا في موضع واحد، هو قوله تعالى:
{ تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَاوَاتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } [الإسراء: 44]، وهذا شاهد على شمول "ما" وعمومها المتقدم ذكرها، لأنه سبحانه أسند التسبيح أولاً إلى السماوات السبع والأرض صراحة بذواتهن، وهن من غير العقلاء بما في كل منهن من أفلاك وكواكب وبروج، أو جبال ووهاد وفجاج، ثم عطف على غير العقلاء بصيغة "من" الخاصة بالعقلاء فقال: { وَمَن فِيهِنَّ }، وإن كان "من"، قد تستعمل لغير العقلاء إذا نزلن منزلة العقلاء كما في قول الشاعر:

أسرب القطا هل من يعير جناحه؟ لعلي إلى من قد هويت أطير

وبهذا شمل إسناد التسبيح لكل شيء في نطاق السماوات والأرض، عاقل وغير عاقل. وقد أكد هذا الشمول بصريح قوله تعالى: { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ } [الإسراء: 44]، وكلمة "شيء" أعم العمومات، كما في قوله تعالى: { ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [الزمر: 62]، فشملت السماوات والأرض والملائكة والإنس والجن والطير والحيوان والنبات والشجر والمدر، وكل مخلوق لله تعالى.
وقد جاء في القرآن الكريم، والسنة المطهرة إثبات التسبيح من كل ذلك كل على حدة.
أولاً: تسبيح الله تعالى نفسه:
{ سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [الإسراء: 1]، { فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } [الروم: 17-18] { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ ٱللَّهِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } [الأنبياء:22] ثانياً: تسبيح الملائكة { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [البقرة: 30] وقوله: { وَتَرَى ٱلْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } [الزمر: 75]. و { يُسَبِّحُونَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ } [الأنبياء: 20].
ثالثاً: تسبيح الرعد:
{ وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ } [الرعد: 13].
رابعاً: تسبيح السماوات السبع والأرض،
{ { تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَاوَاتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ } [الإسراء: 44].
خامساً: تسبيح الجبال:
{ إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ } [ص: 18].
سادساً: تسبيح الطير:
{ { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ } [الأنبياء: 79].
سابعاً: تسبيح الإنسان:
{ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ } [الحجر: 98]، { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } [الواقعة: 74]، { فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [مريم: 11].
فهذا إسناد التسبيح صراحة لكل هذه العوالم مفصلة ومبينة واضحة.
وجاء مثل التسبيح، ونظيره وهو السجود مسنداً لعوالم أخرى وهي بقية ما في هذا الكون من أجناس وأصناف في قوله تعالى:
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ } [الحج: 18].
ويلاحظ هنا أنه تعالى أسند السجود أولاً لمن في السماوات ومن في الأرض و"من" هي للعقلاء، أي الملائكة والإنس والجن، ثم عطف على العقلاء غير العقلاء بأسمائهن من الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، فهذا شمول لم يبق كائن من الكائنات ولا ذرة في فلاة إلا شمله.
وبعد بيان هذا الشمول والعموم، يأتي مبحث العام الباقي على عمومه، والعام المخصوص، وهل عموم "ما" هنا باق على عمومه أم دخله تخصيص؟
قال جماعة من العلماء منهم ابن عباس، إن العموم باق على عمومه، وإن لفظ التسبيح محمول على حقيقته في التنزيه والتحميد.
وقال قوم: إن العموم باق على عمومه لم يدخله خصوص، ولكن التسبيح يختلف، ولكل تسبيح بحسبه، فمن العقلاء بالذكر والتحميد والتمجيد كالإنسان والملائكة والجن، ومن غير العاقل سواء الحيوان والطير والنبات والجماد، فيكون بالدلالة بأن يشهد على نفسه، ويدل على أن الله تعالى خالق قادر.
وقال قوم: قد دخله التخصيص.
ونقل القرطبي عن عكرمة، قال: الشجرة تسبح والأسطوان لا يسبح. وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام وقد قدم الخوان: أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد؟ فقال: قد كان يسبح مرة. ويريد أن التسبيح من الحي أو النامي سواء الحيوان أو النبات وما عداه فلا. وقال القرطبي: ويستدل لهذا القول من السنة بما ثبت عن أبي عباس رضي الله عنهما من وضع الجريد الأخضر على القبر، وقوله صلى الله عليه وسلم فيه:
"لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا" . أي بسبب تسبيحهما، فإذا يبسا انقطع تسبيحهما اهـ.
والصحيح من هذا كله الأول الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وهو الذي يشهد له القرآن الكريم لعدة أمور:
أولاً: لصريح قوله تعالى:
{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء: 44].
ثانياً: أن الحامل لهم على القول بتسبيح الدلالة، هو تحكيم الحس والعقل، حينما لم يشاهدوا ذلك ولم تتصوره العقول، ولكن الله تعالى نفى تحكيم العقل الحسي هنا، وخطر على العقل بقوله تعالى:
{ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء: 44].
ثالثاً: قوله تعالى في حق نبي الله داود عليه السلام:
{ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ } [الأنبياء: 79]. وقوله تعالى: { إِنَّا سَخَّرْنَا ٱلجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِشْرَاقِ } [ص: 18]، فلو كان تسبيحها معه تسبيح دلالة كما يقولون، لما كان لداود عليه السلام خصوصية على غيره.
رابعاً: أخبر الله تعالى أن لهذه العوالم كلها إدراكاً تاماً كإدراك الإنسان أو أشد منه، قال تعالى عن السماوات والأرض والجبال:
{ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب: 72]، فأثبت تعالى لهذه العوالم إدراكاً وإشفاقاً من تحمل الأمانة، بينما سجل على الإنسان ظلماً وجهالة في تحمله إياها، ولم يكن هذا العرض مجرد تسخير، ولا هذا الإباء مجرد سلبية، بل عن إدراك تام، كما في قوله تعالى: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [فصلت: 11]، فهما طائعين لله، وهما يأبين أن يحملن الأمانة إشفاقاً منها.
وفي أواخر هذه السورة الكريمة سورة الحشر، قوله تعالى:
{ لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [الحشر: 21] ومثله قوله تعالى: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [البقرة: 74] وهذا هو عين الإدراك أشد من إدراك الإنسان.
وفي الحديث:
"لا يسمع صوت المؤذن من حجر ولا مدر ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة" فبم سيشهد إن لم يك مدركاً الأذان والمؤذن.
وعن إدراك الطير، قال تعالى عن الهدهد يخاطب نبي الله سليمان:
{ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ } [النمل: 22-24].
ففي هذا السياق عشر قضايا يدركها الهدهد ويفصح عنها لنبي الله سليمان.
الأولى: إدراكه أنه أحاط بما لم يكن في علم سليمان.
الثانية: معرفته لسبإ بعينها دون غيرها، ومجيؤه منها بنبأ يقين لا شك فيه.
الثالثة: معرفته لتولية المرأة عليهم مع إنكاره ذلك عليهم.
الرابعة: إدراكه ما أوتيته سبأ من متاع الدنيا من كل شيء.
الخامسة: أن لها عرشاً عظيماً.
السادسة: إدراكه ما هم عليه من السجود للشمس من دون الله.
السابعة: إدراكه أن هذا شرك بالله تعالى.
الثامنة: أن هذا من تزيين الشيطان لهم أعمالهم.
التاسعة: أن هذا ضلال عن السبيل القويم.
العاشرة: أنهم لا يهتدون.
وقد اقتنع سليمان بإدراك الهدهد لهذا كله فقال له:
{ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } [النمل: 27].
وسلمه رسالة، وبعثه سفيراً إلى بلقيس وقومها:
{ ٱذْهَب بِّكِتَابِي هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَٱنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } [النمل: 28] وكانت سفارة موفقة جاءت بهم مسلمين في قوله تعالى عنها: { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [النمل: 44].
وكذلك ما جاء عن النملة في قوله تعالى عنها:
{ حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا عَلَىٰ وَادِي ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [النمل: 18] فقد أدركت مجيء الجيش، وأنه لسليمان وجنوده وأدركت كثرتهم، وأن عليها وعلى النمل أن يتجنبوا الطريق. ويدخلوا مساكنهم، وهذا الإدراك منها جعل سليمان عليه السلام يتبسم ضاحكاً من قولها. وأن لها قولاً علمه سليمان عليه السلام.
فقد جاء في السنة إثبات إدراك الحيوانات للمغيبات فضلاً عن المشاهدات، كام في حديث الموطأ في فصل يوم الجمعة:
"وإن فيه خلق آدم، وفيه أسكن الجنة" إلى قوله صلى الله عليه وسلم "وفيه تقوم الساعة، وما من دابة في الأرض إلى وهي تصيح بأذنها من فجر يوم الجمعة حتى طلوع الشمس إشفاقاً من الساعة إلا الجن والإنس" ، فهذا إدراك وإشفاق من الحيوان، وإيمان بالمغيب، وهو قيام الساعة وإشفاق من الساعة أشد من الإنسان.
وقصة الجمل الذي ندّ على أهله وخضع له صلى الله عليه وسلم حتى قال الصديق: لكأنه يعلم إنك رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم:
"نعم إنه ما بين لابتيها إلا وهو يعلم أني رسول الله"
فهذا كله يثبت إدراكاً للحيوان بالمحسوس وبالغيب إدراكاً لا يقل عن إدراك الإنسان، فما المانع من إثبات تسبيحها حقيقة على ما يعلمه الله تعالى منها؟ وقد جاء النص صريحاً في التسبيح المثبت لها في أنه تسبيح تحميد لا مطلق دلالة كما في قوله تعالى: { وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ } [الرعد: 13]، وقرنه مع تسبيح الملائكة، { وَٱلْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ } [الرعد: 13] وهذا نص في محل النزاع، وإثبات لنوع التسبيح المطلوب.
خامسا: لقد شهد المسلمون منطق الجماد بالتسبيح وسمعوه بالتحميد حساً كتسبيح الحصا في كفه صلى الله عليه وسلم، وكحنين الجذع للنبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعه كل من في المسجد، وما أخبر به صلى الله عليه وسلم:
"إني لأعلم حجراً في مكة ما مررت عليه إلا وسلم علي" ، وما ثبت بفرد يثبت لبقية أفراد جنسه، كما هو معلوم في قاعدة الواحد بالجنس والواحد بالنوع.
ومن هذا القبيل في أعظم من ذلك ما رواه البخاري في كتاب المناقب عن أنس رضي الله عنه
"أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صعد أُحداً وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال: أثبت أُحد فإن عليك نبياً وصديقاً وشهيدين"
وفي موطأ مالك: لما رجع صلى الله عليه وسلم من سفر طلع عليهم أُحد فقال "هذا جبل يحبنا ونحبه"
فهذا جبل من كبار جبال المدينة يرتجف لصعود النَّبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فيخاطبه صلى الله عليه وسلم خطاب العاقل المدرك: "أثبت أُحد فإن عليك نبياً وصديقاً وشهيدين" ، فيعرف النَّبي ويعرف الصديق والشهيد فيثبت، فبأي قانون كان ارتجافه؟ وبأي معقول كان خطابه؟ وبأي معنى كان ثبوته؟ ثم ها هو يثبت له صلى الله عليه وسلم المحبة المتبادرة بقوله: يحبنا ونحبه.
وإذا ناقشنا أقوال القائلين بتخصيص هذا العموم من إثبات التسبيح للجمادات ونحوها، لما وجدنا لهم وجهة نظر إلا أن الحس لم يشهد شيئاً من ذلك، وقد أوردنا الأمثلة على إثبات ذلك لسائر الأجناس، وتقدم تنبيه الشيخ على تأكيد ذلك بقوله تعالى:
{ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء: 79] رداً على استبعاده.
ومن الأدلة القرآنية في هذا المقام، ما جاء في سياق قوله تعالى:
{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ } [الإسراء: 44]، جاء بعدها قوله تعالى: { وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً } [الإسراء: 45] وهذا نص يكذب المستدلين بالحس.
لأن الله تعالى أخبر بأنه جعل بين الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة، وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً يحجبه عنهم، وهذا الحجاب مستور عن أعينهم فلا يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه محجوب عنهم، ولا يرون الحجاب لأنه مستور، وهذا هو الصحيح في هذه الآية.
وقد قال فيها بعض البلاغيين. إن مستوراً هنا بمعنى ساتراً ويقال لهم: إن جعل مستوراً بمعنى ساتر تكرار لمعنى حجاب، لأن قوله تعالى:
{ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً } [الإسراء: 45] هو بمعنى ساتر، أي يستره عن الذين لا يؤمنون بالآخرة وليس في ذلك زيادة معنى، ولا كبير معجزة، ولكن الإعجاز في كون الحجاب مستوراً عن أعينهم، وفي هذا تحقيق وجود المعنيين، وهما حجبه صلى الله عليه وسلم عنهم، وستر الحجاب عن أعينهم، وهذا أبلغ في حفظه صلى الله عليه وسلم منهم، لأنه لو كان الحجاب مرئياً أي ساتراً فقط مع كونه مرئياً لربما اقتحموه عليه، وأقوى في الإعجاز، لأنه لو كان الحجاب مرئياً لكان كاحتجاب غيره من سائر الناس. ولكن حقيقة الإعجاز فيه هو كونه مستوراً عن أعينهم، وهذا ما رجحه ابن جرير.
وقد جاءت قصة امرأة أبي لهب مفصلة هذا الذي ذكرناه كما ساقها ابن كثير قال:
"لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة تبت يدا أبي لهب وتب إلى قوله: { وَٱمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ }[المسد: 4-5] جاءت امرأة أبي لهب وفي يدها فهر، ولها ولولة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس مع أبي بكر رضي الله عنه عند الكعبة فقال له: إني أخاف عليك أن تؤذيك، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى عاصمني منها، وتلا قرآناً، فجاءت ووقفت على أبي بكر وقالت: إن صاحبك هجاني. قال: لا ورب هذه البنية إنه ليس بشاعر ولا هاج، فقالت: إنك مصدق وانصرفت" . أي ولم تره وهو جالس مع أبي بكر رضي الله عنه.
فهل يقال بعدم وجود الحجاب لأنه مستور لم يشاهد، أم أننا نثبته كما أخبر تعالى وهو القادر على كل شيء؟ وعليه وبعد إثباته نقول: ما الفرق بين إثبات حقيقة قوله تعالى هنا:
{ حِجَاباً مَّسْتُوراً } [الإسراء: 45]، وقوله تعالى: { وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء: 44]؟ ففي كلا المقامين إثبات أمر لا ندركه بالحس، فالتسبح لا نفقهه، والحجاب لا نبصره.
وقد أوردنا هذه النماذج، ولو مع بعض التكرار، لما يوجد من تأثر البعث بدعوى الماديين أو العلمانيين، الذين لا يثبتون إلا المحسوس، لتعطي القارئ زيادة إيضاح، ويعلم أن المؤمن بإيمانه يقف على علم ما لم يعلمه غيره، ويتسع أفقه إلى ما وراء المحسوس، ويعلم أن وراء حدود المادة عوالم يقصر العقل عن معالمها، ولكن المؤمن يثبتها.
وقد رسم لنا النَّبي صلى الله عليه وسلم الطريق الصحيح في مثل هذا المقام من إثبات وإيمان، كما في صحيح البخاري
"أن النَّبي صلى الله عليه وسلم صلَّى صلاة الصبح، ثم أقبل على الناس فقال: بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت: إنا لم نخلق لهذا، وإنما خلقنا للحرث، فقال الناس سبحان الله بقرة تتكلم؟ فقال: فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثَمَّ، وبينما رجل في غنمه، إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة. فطلب حتى كأنه استنقذها منه، فقال له الذئب: هذا: استنقذتها مني، فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري فقال الناس: سبحان الله ذئب يتكلم، قال فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر، وما هما ثم" .
ففي هذا النص الصريح نطق البقرة ونطق الذئب بكلام معقول من خصائص العقلاء على غير العادة، مما استعجب له الناس وسبحوا الله إعظاماً لما سمعوا، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يدفع هذا الاستعجاب بإعلان إيمانه وتصديقه، ويضم معه أبا بكر وعمر، وإن كانا غائبين عن المجلس، لعلمه منهما أنهما لا ينكران ما ثبت بالسند الصحيح لمجرد استبعاده عقلاً.
وهنا يقال لمنكري التسبيح حقيقة وما المانع من ذلك؟ أهو متعلق القدرة أم استعباد العقل لعدم الإدراك الحسي؟
فأما الأول. فممنوع، لأن الله تعالى على كل شيء قدير. وقد أخرج لقوم صالح ناقة عشراء من جوف الصخرة الصماء، وأنطق الحصا في كفه صلى الله عليه وسلم.
وأما الثاني: فلا سبي إليه حتى ينتظر إدراكه وتحكيم العقل فيه، فإن الله تعالى قال:
{ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء: 44].
فلم يبق إلا الإيمان أشبه ما يكون بالمغيبات. وإيمان تصديق وإثبات لا تكييف وإدراك وخالق الكائنات أعلم بحالها وبما خلقها عليه.
فيجب أن نؤمن بتسبيح كل ما في السماوات والأرض، وإن كان مستغرباً عقلاً، ولكن أخبر به خالقه سبحانه، وشاهدنا المثال مسموعاً من بعض أفراده.