التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ
٢٢
هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلسَّلاَمُ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْجَبَّارُ ٱلْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٢٣
هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٢٤
-الحشر

أضواء البيان في تفسير القرآن

جاءت في هذه الآيات الثلاث: ذكر كلمة التوحيد مرتين، كما ذكر فيها أيضاً تسبيح الله مرتين وذكر معهما العديد من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، فكانت بذلك مشتملة على ثلاث قضايا أهم قضايا الأديان كلها مع جميع الأمم ورسلهم، لأن دعوة الرسل كلها في توحيد الله تعالى في ذاته وأسمائه وصفاته وتنزيهه، والرد على مفتريات الأمم على الله تعالى:
فاليهود قالوا: عزير ابن الله.
والنصارى قالوا المسيح ابن الله.
والمشركون قالوا:
{ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً } [مريم: 88]، { وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً } [الزخرف: 19]، وقالوا: { أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ص: 5].
فكلهم ادعى الشريك مع الله، وقالوا: ثالث ثلاثة وغير ذلك.
وكذلك في قضية التنزيه، فاليهود قالوا:
{ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } [آل عمران: 181]، وقالوا: { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } [المائدة: 64].
والمشركون قالوا:
{ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً } [الفرقان: 60]، ونسبوا الله ما لا يرضاه أحدهم لنفسه، وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً، في الوقت الذي إذا بشر أحدهم بالأُنثى ظلَّ وجهُه مسودّاً وهو كظيم.
وهذا كما تراه أعظم افتراء على الله تعالى، وقد سجله عليهم القرآن في قوله تعالى
{ وَيُنْذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } [الكهف: 4-5] وكما قال تعالى: { أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ ٱللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [الصافات: 151-152]، وقال مبيناً جرم مقالتهم، { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ ٱلسَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [مريم: 88-92].
فكانت تلك الآيات الثلاث علاجاً في الجملة لتلك القضايا الثلاث، توحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتنزيه الله سبحانه وتعالى مع إقامة الأدلة عليها.
وقد اجتمعت معاً لأنه لا يتم أحدها إلا بالآخرين، ليتم الكمال لله تعالى.
قال أبو السعود: إن الكمالات كلها مع كثرتها وتشعبها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم اهـ.
وهذا كله متوفر في هذا السياق، وقد بدأ بكلمة التوحيد، لأنها الأصل، لأن من آمن بالله وحده آمن بكل ما جاء عن الله، وآمن بالله على ما هو له أهل، ونزهه عما ليس له بأهل قال تعالى: { هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [الحشر:22] ثم أعقبه بالدليل على إفراده تعالى بالألوهية بما لا يشاركه غيره فيه بقوله تعالى:{ عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } [الحشر: 22].
وهذا الدليل نص عليه على أنه دليل لوحدانية الله تعالى في مواضع أخرى منها قوله تعالى
{ إِنَّمَآ إِلَـٰهُكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [طه: 98] ووسع كل شيء هنا تساوى عالم الغيب والشهادة، ومنها قوله تعالى { أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } [النمل: 25-26]. وقوله تعالى { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } [البقرة: 255] إلى قوله { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } [البقرة: 255].
وهذا قطعاً لا يشاركه فيه غيره، كما قال تعالى:
{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [الأنعام: 59] فكان من حقه على خلقه أن يعبدوه وحده لا إله إلا هو، وجاء بدليل ثان، وهو قوله تعالى { هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } وقد نص عليه صراحة أيضاً كدليل على الوحدانية في قوله تعالى { وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } [البقرة: 163] فهو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة.
من رحمته التي اختص بها في الدنيا قوله:
{ وَهُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ } [الشورى: 28] وقوله: { فَٱنظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَةِ ٱللَّهِ كَيْفَ يُحْيِيِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ } [الروم: 50] أي: بإنزاله الغيب وإنبات النبات مما لا يقدر عليه إلا هو فكان حقه على خلقه أن يعبدوه وحده لا إله إلا هو.
وقد جمع الدليلين العلم والرحمة معاً في قوله تعالى:
{ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } [غافر: 7].
ثم جاءت كلمة التوحيد مرة أخرى، { هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ }، وجاء بعدها من الصفات الجامعة قوله: { ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلسَّلاَمُ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْجَبَّارُ ٱلْمُتَكَبِّرُ }، وهذا الدليل على وحدانيته تعالى نص عليه في موضع آخر صريحاً في قوله تعالى:
{ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ } [الأعراف: 158] فالذي له ملك السماوات والأرض هو الملك الحق الكامل الملك، وهو الذي يملك التصرف في ملكه كما يشاء بالإحياء والإماتة وحده، كما قال تعالى { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ } [الملك: 1-2] وهو القدوس السلام المؤمن المهيمن على ملكه كما في قوله أيضاً { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمٌ } [البقرة: 255] فالقيوم هو المهيمن والقائم بكل نفس، العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون، ثم جاء بالدليل الأعظم في قوله تعالى: { هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ } فهو وحده المتفرد بالخلق والإيجاد، والإبداع والتصوير، وقد نص على هذا الدليل في أكثر من موضع كما في قوله تعالى: { بَدِيعُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الأنعام: 101] ثم قال { ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَٱعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [الأنعام: 102].
وذكر أيضاً الخلق مفصلاً والملك مجملاً في قوله تعالى
{ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُـمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } [الزمر: 6] ثم قال { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ } [الزمر: 6] وقال { { ذَلِكُـمُ ٱللَّهُ رَبُّـكُمْ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [غافر: 62] ثم قال { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } [غافر: 62] وجمع الملك والخلق معاً في قوله { ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [الفرقان: 2] إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى.
ومن تأمل براهين القرآن على وحدانية الله تعالى، وعلى قدرته، على البعث وهما أهم القضايا العقائدية يجد أهمها وأوضحها وأكثرها، هو هذا الدليل، أعني دليل الخلق والتصوير.
وقد جاء هذا الدليل في القرآن جملة وتفصيلاً، فمن الإجمال ما جاء في أصل المخلوقات جميعاً
{ ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } [الزمر: 62] وقوله تعالى: { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الملك: 1]، وقال: { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس: 82] ثم قال { فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } [يس: 83] وقال: { تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ } [الملك: 1-2] أي خالق الإيجاد والعدم، وخلق العدم يساوي في الدلالة على القدرة خلق الإيجاد، لأنه إذا لم يقدر على إعدام ما أوجد يكون الموجود مستعصياً عليه، فيكون عجزاً في الموجد له، كمن يوجد اليوم سلاحاً ولا يقدر على إعدامه، وإبطال مفعوله، فقد يكون سبباً في إهلاكه، ولا تكتمل القدرة حقاً إلا بالخلق والإعدام معاً، وقال في خلق السماوات والأرض: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ } [الأنعام: 1].
وقال في خلق الأفلاك وتنظيمها:
{ وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } [الأنبياء: 33].
ثم في أصول الموجودات في الأرض بقوله:
{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [البقرة: 29].
وفي أصول الأجناس: الماء والنار والنبات والإنسان، قال:
{ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ } [الواقعة: 58-59].
وذكر معه القدرة على الإعدام:
{ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } [الواقعة: 60].
وفي أصول النبات:
{ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } [الواقعة: 63-64].
وفي أصول الماء:
{ أَفَرَأَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ } [الواقعة: 68-69].
وفي أصل تطوير الحياة:
{ أَفَرَأَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ } [الواقعة: 71-72].
وفي جانب الحيوان
{ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } [الغاشية: 17] الآية.
ولهذا فقد تمدح تعالى بهذه الصفة، صفة الخلق وصفة آلهة المشركين بالعجز، كما قال تعالى:
{ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىٰ فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [لقمان: 10] ثم قال: { هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ ٱلظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [لقمان: 11].
ومعلوم أنها لم تخلق شيئاً كما قال تعالى موبخاً لهم:
{ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [الأعراف: 191].
وبين أنهما لا يستويان في قوله:
{ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [النحل: 17]، ثم بين نهاية ضعفها وعجزها في قوله تعالى: { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَـاةً وَلاَ نُشُوراً } [الفرقان: 3] وهذا غاية العجز. كما ضرب لذلك المثل بقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ } [الحج: 73] فهم حقاً لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولو بقدر الذبابة؟ وهكذا ترى صفة الخلق المتصف بها سبحانه وتعالى أعظم دليل على وحدانية الله تعالى، وهي متضمنة صفة التصوير والعلم لأن لكل مخلوق صورة تخصه؟ ولا يكون ذلك إلا عن علم بالغيب والشهادة، كما تقدم.
وهكذا أيضاً كان هذا الدليل أقوى الأدلة على البعث، كما قال تعالى:
{ أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس: 77-79] إلى آخر السورة.
وكذلك في قوله تعالى صريحاً في ذلك ونصاً عليه:
{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [الحج: 5] ثم قال تعالى: { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ } [الحج: 6-7].
ثم بين تعالى أن جاحد هذا الدليل إنما هو مكابر جاهل، ضال مضل، وذلك في قوله بعده مباشرة:
{ ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ } [الحج: 8-10].
ومن هنا كان أول نداء في المصحف يوجه إلى الناس جميعاً بعبادة الله كان لاستحقاقه عبادته وحده، لأنه متصف بصفة الخلق كما قال تعالى:
{ يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 21-22]. أي لأنهم ليسوا له بأنداد فيما اتصف به سبحانه فلا تشركوهم مع الله في عبادته.
فكانت هذه الصفات لله تعالى في آخر هذه السورة حقاً أدلة على إثبات وحدانية الله تعالى في ذاته وأسمائه وصفاته، وأنه المستحق لأن يعبد وحده لا إله إلا هو.
والواجب على الخلق تنزيهه عما لا يليق بجلاله سبحانه وتعالى عما يشركون، يسبح له ما في السموات والأرض، لأنها من مخلوقاته وهو العزيز الحكيم، وقوله تعالى { لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ } لم يبين هنا المراد من أنه سبحانه له الأسماء الحسنى، وقد بين في سورة الأعراف المراد بذلك في قوله تعالى:
{ وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا } [الأعراف: 180].
قال القرطبي: سمى الله سبحانه أسماءه بالحسنى، لأنها حسنة في الأسماع والقلوب، فإنها تدل على توحيده وكرمه وجوده وإفضاله، ومجيء، قوله تعالى: { لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ } بعد تعداد أربعة عشر اسماً من أسمائه سبحانه يدل على أن له أكثر من ذلك، ولم يأت حصرها ولا عدها في آية من كتاب الله.
وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر"
وسرد ابن كثير عدد المائة مع اختلاف في الروايات.
وذكر عند آية الأعراف أنها ليست محصورة في هذا العدد لحديث ابن مسعود في مسند أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنه وهمه" الحديث اهـ.
ومحل الشاهد منه ظاهر في أن لله أسماء أنزلها في كتبه وأسماء خص بها بعض خلقه كما خص الخضر بعلم من لدنه، وأسماء استأثر بها في علم الغيب عنده، كما يدل حديث الشفاعة:
"فيلهمني ربي بمحامد لم أكن أعرفها من قبل" ، والواقع أنه لا تعارض بين الحديثين.
لأن الأول: يتعلق بعدد معين، وبما يترتب عليها من الجزاء.
والحديث الثاني: يتعلق ببيان أقسام أسمائه تعالى، من حث العلم بها وتعليمها وما أنزل منها.
وقد ذكر هذا الجمع ابن حجر في الفتح في كتاب الدعوات عند باب: لله مائة اسم غير واحد.
وقد حاول بعض العلماء استخراج المائة اسم من القرآن فزادوا ونقصوا لاعتبارات مختلفة، وقد أطال في الفتح بحث هذا الموضوع في أربع عشرة صحيفة مما لا غنى عنه ولا يمكن نقله، ولا يصلح تلخيصه.
وقد ذكر من أفردها بالتأليف.
كما أن القرطبي ذكر أنه ألف فيها، وأساس البحث يدور على نقطتين:
الأولى: تعيين المائة اسم المرادة
والثانية: معنى أحصاها، وفي رواية حفظها.
وقد حضرت مجلساً للشيخ رحمة الله تعالى عليه في بيته مع الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وسأله عن الصحيح في ذلك، فكان حاصل ما ذكر في ذلك المجلس أن التعيين لم يأت فيه نص صحيح، وأن الإحصاء أو الحفظ لا ينبغي حمله على مجرد الحفظ للألفاظ غيباً، ولكن يحمل على أحصى معانيها وحفظها من التحريف فيها والتبديل والتعطيل، وحاول التخلق بحسن صفاتها كالحلم والعفو والرأفة والرحمة والكرم، ونحو ذلك، والحذر من مثل الجبار والقهار، ومراقبة مثل: الحسيب الرقيب، وكذلك التعرض لمثل التواب والغفور بالتوبة وطلب المغفرة، والهادي والرزاق بطلب الهداية والرزق ونحو ذلك.
ونقل القرطبي عن ابن العربي عند قوله تعالى:
{ فَٱدْعُوهُ بِهَا } [الأعراف: 180] أي اطلبوا منه بأسمائه، فيطلب بكل اسم ما يليق به تقول: يا رحمن ارحَمني، يا رزَّاق ارزقني: يا هادي اهدني، يا توَّاب تب علي، وهكذا رتب دعاءك تكن من المخلصين اهـ.
مسألة
يؤخذ من كلام ابن العربي هذا ما يقوله الفقهاء في ذكر اسم الله عند الذبح أن يقتصر على قوله: بسم الله ولا يقول الرحمن الرَّحيم، لأن اسم الرحمن الرَّحيم يقتضي الرَّحمة، وهي لا يتناسب معها الذبح ورسول الروح.
ويؤيد هذا ما ذكره ابن قدامة أنه
" ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا ذبح قال: بسم الله والله أكبر" أي أكبر وأقدرك عليها، وهو أكبر منك عليك منها.
فإذا فقه الإنسان أسماء الله الحسنى على هذا النحو، كان حقاً قد أحصاها وحفظها في استعمالها في معانيها، فكان حقاً من أهل الجنة، والعلم عند الله تعالى.
ولقد استوقفني طويلاً مجيء هذه الآيات في نهاية هذه السورة تذييلاً لها وختاماً وبأسلوب الإجمال والتفصيل لقضايا التوحيد، وإقامة الدليل، وإلزام أهل الإلحاد والتعطيل، فمكثت طويلاً أتطلب ربطها بما قبلها، فلم أجد في كل ما عثرت عليه من التفسير أكثر من شرح المفردات، وإيراد بعض التنبيهات مما لا ينفذ إلى أعماق الموضوع، ولا يشفي عليلاً في مجتمعاتنا الحديثة، أو يذهب شبه المدنية المادية، فرجعت إلى السورة بكاملها أتأمل موضوعها فإذا بها تبدأ أولاً بتسبيح العوالم كلها لله العزيز الحكيم، وهذا أمر فوق مستوى الإدراك الإنساني، ثم تسوق أعظم حدث تشهده المدينة بعد الهجرة من إخراج اليهود، ولم يكن مظنوناً إخراجهم، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا فكانوا موضع العبرة والموعظة.
ثم تأتي لموقف فريقين متقابلين، فريق المؤمنين والكافرين.
يتمثل الفريق الأول في المهاجرين والأنصار وما كانوا عليه من أخوة ومودة ورحمة وعطاء وإيثار على النفس.
ويتمثل الفريق الآخر في المنافقين واليهود، وما كان بينهم من مواعدة وإغراء وتحريض، ثم تخل عنهم وخذلان لهم.
فكان في ذلك تصوير لحزبين متقابلين متناقضين حزب الرحمن، وحزب الشيطان، وهي صورة المجتمع في المدينة آنذاك.
ثم تأتي إلى مقارنة أخرى بين نتائج هذين الحزبين ومنتهاهما وعدم استوائهما، وفي ذلك تقرير المصير:
{ لاَ يَسْتَوِيۤ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ وَأَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ } [الحشر: 20].
وهذه أخطر قضية في كل أمة أي تقرير مصيرها، ثم بيان حقيقة تأثير القرآن وفعاليته في المخلوقات، ولو كانت جبلاً أشم أو حجراً أصم لو أنزل عليه لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، فإذا بها قد اشتملت على موضوع الخلق والخالق والأمة والرسالة والبدء والنهاية وصراع الحق مع الباطل، والكفر والإيمان والنفوس في الشح والإحسان، وكلها مواقف عملية ومناهج واقعية وأمثلة بيانية
{ وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [الحشر: 21].
فإذا ما توجه الفكر في هذا العرض، وتنقل من موقف إلى موقف، وتأمل صنع الله وقدرته وآياته، نطق بتسبيحه، وعلم أنه سبحانه هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، علم ما سيكون عليه العالم قبل وجوده، فأوجده على مقتضى علمه به، وسيره على النحو الذي أوجده عليه، علم خذلان المنافقين لليهود قبل أن يحرضهم، فكان كما علم سبحانه وحذر من مشابهتهم، وعلم أنه لو أنزل القرآن على جبل ماذا يكون حاله، فحث العباد بالأخذ به، ولعلمه هذا بالغيب والشهادة، كان حقاً هو الله وحده.
ثم مرة أخرى: { هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلسَّلاَمُ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْجَبَّارُ ٱلْمُتَكَبِّرُ } [الحشر: 23]، برهان آخر في صور متعددة، وبراهين متنوعة على وحدانيته سبحانه الملك القدّوس، الملك المهيمن على ملكه القدّوس المسلم من كل نقص، المسيطر على ما في ملكه كله لا يعزب عنه مثقال ذرة. كما قال تعالى:
{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الملك: 1].
وهنا وقفة لتأمل اجتماع تلك الصفات معاً عالم الغيب والشهادة، والملك القدوس والسلام المهيمن، فنجدها مترابطة متلازمة لأن العالم إذا لم يملك التصرف ولم يهيمن على شيء فلا فعالية لعلمه.
والملك الذي لا يعلم ولم يتقدس عن النقص لا هيمنة له على ملكه.
فإذا اجتمع كل ذلك وتلك الصفات: العلم والملك والتقديس والهيمنة، حصل الكمال والجلال، ولا يكون ذلك إلا لله وحده العزيز الجبار المتكبر، ولا يشركه أحد في شيء من ذلك سبحانه وتعالى عما يشركون، هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى.
وهنا، في نهاية هذا السياق يقف المؤمن وقفة إجلال وتعظيم لله.
فالخالق هو المقدر قبل الإيجاد.
والبارئ الموجد من العدم على مقتضى الخلق والتقدير، وليس كل من قدر شيئاً أوجده إلا الله.
والمصور المشكل لكل موجود على الصورة التي أوجده عليها، ولم يفرد كل فرد من موجوداته على صورة تختص به إلا الله سبحانه وتعالى، كما هو موجود في خلق الله للإنسان والحيوان والنبات كل في صورة تخصه.
وبالرجوع مرة أخرى إلى أول السياق، فإن الخلق والتقدير لا بد أن يكون بموجب العلم سواء كان في الحاضر المشاهد أو للمستقبل الغائب، وهذا لا يكون إلا لله وحده عالم الغيب والشهادة، فكان تقديره بموجب علمه والملك القدوس القادر على التصرف في ملكه يوجد ما يقدره.
والمهيمن: يسير ما يوجد على مقتضى ما يقدره.
والذي قدر فهدى، العزيز الذي لا يقهر الجبال الذي يقهر كل شيء لإرادته، وتقديره، ويخضعه لهيمنته.
المتكبر الذي لا يتطاول لكبريائه مخلوق، وأكبر من أن يشاركه غيره في صفاته، تكبر عن أن يماثله غيره أو يشاركه أحد فيما اختص به سبحان الله عما يشركون.
وفي نهاية السياق إقامة البرهان الملزم وانتزاع الاعتراف والتسليم، { هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ } [الحشر: 24] وهو أعظم دليل كما تقدم، وهو كما قال: دليل الإلزام، لأن الخلق لا بد لهم من خالق، وهذه قضية منطقية مسلمة، وهي أن كل موجود لا بد له من موجد، وقد ألزمهم في قوله تعالى:
{ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ } [الطور: 35]، وهذا بالسير، والتقسيم أن يقال: إما خلقوا من غير شيء خلقهم أي من العدم، ومعلوم أن العدم لا يخلق شيئاً لأن فاقد الشيء لا يعطيه، والعدم ليس أمراً وجودياً حتى يمكن له أن يوجد موجوداً.
أم هم الخالقون؟
وهم أيضاً يعلمون من أنفسهم أنهم لم يخلقوا أنفسهم، فيبقى المخلوق لا بد له من خالق، وهو الله تعالى: الخالق البارئ.
ولو قيل من جانب المنكر: إن ما نشاهده من وجود الموجود كالإنسان والحيوان والنبات يتوقف وجوده على أسباب نشاهدها، كالأبوين للحيوان وكالحرث والسقي للنبات إلخ، فجاء قوله تعالى: { المصور }، فهل الأبوان يملكان تصوير الجنين من جنس الذّكورة أوالأنوثة أو من جنس اللّون والطّول والقصر والشبه؟
الجواب: لا وكلا، بل ذلك لله وحده، هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء، كما قال تعالى:
{ لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [الشورى: 49-50].
وكذلك في النبات، توضع الحبة وتسقى بالماء، فالتربة واحدة، والماء واحد، فمن الذي يصور شكل النبات هذا نجم على وجه الأرض، وذاك نبت على ساق، وهذا كرم على عرش، وذاك نخل باسقات، فإذا طلعت الثمرة في أول طورها فمن الذي يصورها في شكلها، من استداردتها أو استطالتها أو غير ذلك، وإذا تطورت إلى النضج فمن الذي صورها في لونها الأحمر أو الأصفر أو الأسود أو الأخضر أو الأبيض؟ هل هي التربة أو الماء أو هما معاً، لا وكلا. إنه هو الله الخالق البارئ المصور، سبحانه له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً.
وهنا عود على بدء يختم السورة بما بدأت به مع بيان موجباته واستحقاقه، وآيات وحدانيته، سبحانه لا إله إلا هو العزيز الحكيم.