التفاسير

< >
عرض

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٤
-الحشر

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ }.
المشاقة العصيان، ومنه شق العصا، والمخالفة.
وهذا يدل على أن الله تعالى أوقع ما أوقعه ببني النضير من إخراجهم من ديارهم وتخريب بيوتهم، بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله، وأن المشاقة المذكورة هي علة العقوبة الحاصلة بهم، ولا شك أن مشاقة الله ورسوله من أعظم أسباب الهلاك.
وفي الآية مبحث أصولي مبني على أن المشاقة قد وقعت من غير اليهود، فلم تقع بهم تلك العقوبة كما وقع من المشركين المنصوص عليها في قوله تعالى:
{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [الأنفال: 12]، وهذا في بدر قطعاً، ثم قال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } [الحشر: 4]، ولما قدر صلى الله عليه وسلم على أهل مكة لم يوقع بهم ما أوقع باليهود من قتل، بل قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" . فوجد الوصف الذي هو المشاقة الذي هو علة الحكم، ولم يوجد الحكم الذي هو الإخراج من الديار وتخريب البيوت.
قال الفخر الرازي: فإن قيل: لو كانت المشاقة علة لهذا التخريب لوجب أن يقال: أينما حصلت هذه المشاقة حصل التخريب، ومعلوم أنه ليس كذلك: قلنا: هذا أحد ما يدل على أن تخصيص العلة المنصوصة لا يقدح في صحتها اهـ.
وقد بحث الشيخرحمه الله هذه المسألة في آداب البحث والمناظرة، وفي مذكرة الأصول في مبحث النقض، وعنون له في آداب البحث بقوله: تخلف الحكم ليس بنقض سواء لوجود مانع أو تخلف شرط.
ومثل لتخلف الحكم بوجود مانع بقتل الوالد ولده عمداً، مع عدم قتله قصاصاً به، لأن علة القصاص موجودة، وهي القتل العمد، والحكم وهو القصاص متخلف. ومثل لتخلف الشرط بسرقة أقل من نصاب أو من غير الحرز.
ثم قال: النوع الثالث: تخلف حكمها عنها لا لسبب من الأسباب التي ذكرنا، ومثل له بعضهم بقوله تعالى:
{ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ } [الحشر: 3] قالوا: فهذه العلة، التي هي مشاقة الله ورسوله، قد توجد في قوم يشاقون الله ورسوله مع تخلف حكمها عنها، وهذه الآية الكريمة تؤيد قول من قال: إن النقض في فن الأصول تخصيص للعلة مطلقاً، لا نقض لها، وعزاه في مراقي السعود للأكثرين في قوله في مبحث القوادح في الدليل في الأصول:

منها وجود الوصف دون الحكم سماه بالنقض وعاة العلم
والأكثرون عندهم لا يقدح بل هو تخصيص وذا مصحح

إلى قوله:

ولست فيما استنبطت بضائر إن جاء لفقد شرط أو لمانع

وقد أطلعني بعض الإخوان على شرح لفضيلة الشيخ،رحمه الله ، على مراقي السعود في أوائله على قول المؤلف:

ذو فترة بالفرع لا يراع

وتكلم على حكم أهل الفترة، ثم على تخصيص بعض الآيات، ومن ثم إلى تخصيص العلة.
وجاء في هذا المخطوط ما نصه: ورجح الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الحشر أن تخصيص العلة كتخصيص النص مطلقاً، مستدلاً بقوله تعالى:
{ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ } [الحشر: 3] الآية، وقد فعل ذلك غير بني النضير، فمل يفعل لهم مثل ما فعل لهم والله أعلم اهـ.
إلا أني طلبت هذا الترجيح في ابن كثير عند الآية، فلم أقف عليه فليتأمل، ولعله في غير التفسير.
أما ما ذكرهرحمه الله تعالى عن بعض في آداب البحث والمناظرة، وهو أنه: قد يتخلف الحكم عن العلة، لا لشيء من الأسباب التي ذكرنا، فالذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أن تخلف الحكم عن العلة في غير اليهود، وإنما هو لتخلف جزء منها، وأن العلة مركبة، أي هي في اليهود مشاقة وزيادة، تلك الزيادة لم توجد في غير اليهود، فوقع الفرق، وذلك أن مشاقة غير اليهود كانت لجهلهم وشكهم، كما أشار تعالى لذلك عنهم بقوله تعالى:
{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس: 78-79] إلى آخر السورة، فهم في حاجة إلى زيادة بيان، وكذلك في قوله في أول سورة ص: { وَعَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِى ٱلْمِلَّةِ ٱلآخِرَةِ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ ٱخْتِلاَقٌ أَأُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي } [ص: 4-8].
فهم في عجب ودهشة واستبعاد أن ينزل عليه صلى الله عليه وسلم الذكر من بينهم، وهم في شك من أمرهم، فهم في حاجة إلى إزالة الشك والتثبت من الأمر، ولذا لما زال عنهم شكهم وتبينوا من أمرهم، وراحوا يدخلون في دين الله أفواجاً، بينما كان كفر اليهود جحود بعد معرفة، فكانوا يعرفونه صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم
{ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 146]، وقد سمي لهم فيما أنزل كما قال عيسى عليه السلام: { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي ٱسْمُهُ أَحْمَدُ } [الصف: 6] فلم ينفعهم بيان، ولكنه الحسد والجحود كما بين تعالى أمرهم بقوله عنهم: { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ } [البقرة: 109] وقوله: { وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } [آل عمران: 69]، وقوله: { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 75]، وقوله { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [آل عمران: 71].
فقد كانوا جبهة تضليل للناس، وتحريف للكتاب. وتلبيس للحق بالباطل. كل ذلك عن قصد وعلم، بدافع الحسد ومناصبة العداء وخصم هذا حاله فلا دواء له، لأن المدلس لا يؤمن جانبه، والمضلل لا يصدق، والحاسد لا يشفيه إلا زوال النعمة عن المحسود، ومن جانب آخر فقد قطع الله الطمع عن إيمانهم
{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 75] كما أيأس من إيمانهم بعد إقرارهم على أنفسهم بتغلف قلوبهم عن سماع الحق ورؤية النور: { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } [البقرة: 88].
وكل هذه الصفات لم تكن موجودة في كل من شاق الله ورسوله من غير اليهود، وقد صرح تعالى بأنهم استحقوا هذا الحكم للأسباب التي اختصوا بها دون غيرهم في قوله تعالى:
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِٱلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } [البقرة: 84-85].
فكل ذلك من نقض الميثاق، والغدر في الصلح، وسفك الدماء، والتظاهر بالإثم والعدوان، والإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه، كان خاصاً باليهود، فكانت العلة مركبة من المشاقة. ومن هذه الصفات التي اختصوا بها، وكان الحكم صريحاً هنا بقوله عنهم:
{ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ } [البقرة: 85] وكان خزيهم في الدنيا: هو ما وقع بهم من إخراج وتخريب وتقتيل.
وإن من كانت هذه حاله كما تقدم، لم يكن لهم الاستئصال الكلي بإخراجهم أو تقتيلهم، فلم يعد يصلح فيهم استصلاح ولا يتوقع منهم صلاح، وكفي شاهداً على ذلك أن بني قريظة لم يتعظوا، ولم يستفيدوا ولم يعتبروا كما أمرهم الله:
{ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } [الحشر: 2].
ما اتعظ بنو قريظة بما وقع بإخوانهم بني النضير، فلجؤوا بعد عام واحد إلى ما وقع فيه بنو النضير من غدر وخيانة، فكان اختصاص اليهود بالحكم لتلك العلة المشتركة، لأنهم - وإن شاركهم غيرهم في المشاقة - فلم يشاركهم غيرهم في الجانب الآخر مما قدمنا من دوافع المشاقة.
وللدوافع تأثير في الحكم، كما في قصة آدم وإبليس. فقد اشترك آدم وإبليس في عموم علة العصيان، إذ نهي آدم عن قربان الشجرة، وأمر إبليس بالسجود لآدم مع الملائكة، فأكل آدم مما نُهِي عنه، وامتنع إبليس عما أمر به فاشتركا في العصيان كما قال تعالى عن آدم:
{ وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ } [طه: 121]، وقال عن إبليس: { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } [الأعراف: 12]، ولكن السبب كان مختلفاً، فآدم نسي ووقع تحت وسوسة الشيطان فخدع بقسم إبليس بالله تعالى: { وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ ٱلنَّاصِحِينَ } [الأعراف: 21]، وكانت معصية عن إغواء ووسوسة { فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } [البقرة: 36].
أما إبليس، فكان عصيانه عن سبق إصرار، وعن حسد واستكبار كما قال تعالى:
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ } [البقرة: 34]، ولما خاطبه الله تعالى بقوله: { قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ } [ص: 75] قال في إصراره وحسده وتكبره: { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ص: 76].
فاختلفت الدوافع، وكان لدى إبليس ما ليس لدى آدم في سبب العصيان وبالتالي اختلفت النتائج، فكانت النتيجة مختلفة تماماً. أما آدم فحين عاتبه على أكله من الشجرة في قوله تعالى:
{ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ } .[الأعراف: 22] رجعا حالاً واعترفا بذنبهما قائلين: { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } [الأعراف: 23] وكانت العقوبة لهما قوله تعالى: { قَالَ ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ } [الأعراف: 24].
فكان هبوط آدم مؤقتاً ولحقه قوله تعالى:
{ قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 38]، فأدركته هداية الله، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى: { فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } [البقرة: 37].
أما نتيجة إبليس فلما عاتبه تعالى في معصيته في قوله تعالى:
{ قَالَ يٰإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ } [ص: 75] كان جوابه استعلاء، وتعاظماً، على النقيض مما كان في جواب آدم إذ قال: { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ص: 76]، فكان جوابه كذلك عكس ما كان جواباً على آدم { قَالَ فَٱخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِيۤ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [ص: 77-78].
ولقد قالوا: إن الذي جر على إبليس هذا كله هو الحسد، حسد آدم على ما أكرمه الله به فاحتقره وتكبر عليه، فوقع في العصيان، وكانت نتيجته الطرد.
وهكذا اليهود: إن داءهم الدفين هو الحسد والعجب بالنفس، فجرهم إلى الكفر، ووقعوا في الخيانة، وكانت النتيجة القتل والطرد.
وقد بين الشيخ -رحمه الله - أن مشاقة اليهود هذه هي من الإفساد في الأرض الذي نهاهم الله عنه، وعاقبهم عليه مرتين، وتهددهم إن هم عادوا للثالثة عاد للانتقام منهم، وها هم قد عادوا، وشاقوا الله ورسوله، فسلط عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
قالرحمه الله في سورة الإسراء عند قوله تعالى:
{ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } [الإسراء: 8]، لما بين تعالى أن بني إسرائيل قضي إليهم في الكتاب أنهم يفسدون في الأرض مرتين - وبين نتائج هاتين المرتين - بين تعالى أيضاً: أنهم إن عادوا للإفساد في المرة الثالثة، فإنه جل وعلا يعود للانتقام منهم بتسليط أعدائهم عليهم، وذلك في قوله: { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا }، ولم يبين هنا هل عادوا للإفساد في المرة الثالثة أم لا؟
ولكنه أشار في آيات أخر إلى أنهم عادوا للإفساد بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتم صفاته، ونقض عهوده ومظاهرة عدوه عليه، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة، فعاد الله جل وعلا للانتقام منهم تصديقاً لقوله: { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } فسلط عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وجرى على بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع وخَيبر، ما جرى من القتل والسلب والإجلاء، وضرب الجزية على من بقي منهم، وضرب الذلة والمسكنة.
ومن الآيات الدالة على أنهم عادوا للإفساد قوله تعالى:
{ وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ ٱللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلَ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [البقرة: 89-90] وقوله: { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم } [البقرة: 100] وقوله: { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ } [المائدة: 13] ونحو ذلك من الآيات.
ومن الآيات الدالة على أنه تعالى عاد إلى الانتقام منهم قوله تعالى:
{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } [الحشر: 2-4] وقوله: { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } [الأحزاب: 26-27] الآية اهـ منه.
فهذا منهرحمه الله بيان ودليل إلى مغايرة المشاقة الواقعة من اليهود للمشاقة الواقعة من غيرهم، فكان تخلف الحكم عمن شاقوا الله ورسوله من غير اليهود لتخلف بعض العلة في الحكم كما قدمنا. والله تعالى أعلم.