التفاسير

< >
عرض

لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ
٨
وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٩
-الحشر

أضواء البيان في تفسير القرآن

في هذه الآية الكريمة وصف شامل للمهاجرين في دوافع الهجرة: أنهم { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ }، وغايتها: وهي { وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَه }، والحكم لهم بأنهم { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُون }.
ومنطوق هذه الأوصاف يدل بمفهومه أنه خاص بالمهاجرين، مع أنه جاءت نصوص أخرى تدل على مشاركة الأنصار لهم فيه: منها قوله تعالى:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [الأنفال: 72]، وقوله تعالى بعدها: { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } [الأنفال: 74].
فذكر المهاجرين بالجهاد بالمال والنفس، وذكر معهم الأنصار بالإيواء والنصر، ووصف الفريقين معاً بولاية بعضهم لبعض، وأثبت لهم معاً حقيقة الإيمان
{ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } [الأنفال: 4]، أي الصادقون في إيمانهم فاستوى الأنصار مع المهاجرين في عامل النصرة وفي صدق الإيمان.
وفي قوله تعالى:
{ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [الحشر: 9] وصف شامل للأنصار، تبوءوا الدار: أي المدينة، والإيمان من قبلهم: أي ببيعة العقبة الأولى والثانية من قبل مجيء المهاجرين، بل ومن قبل إيمان بعض المهاجرين يحبون من هاجر إليهم ويستقبلونه بصدور رحبة، ويؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، لأنهم هاجروا إليهم.
وظاهر النصوص تدل بمفهومها أن غيرهم لم يشاركهم في هذه الصفات، ولكن في الآية الأولى ما يدل لمشاركة المهاجرين الأنصار في هذا الوصف الكريم، وهو الإيثار على النفس، لأن حقيقة الإيثار على النفس هو بذل المار للغير عند حاجته مقدماً غيره على نفسه، وهذا المعنى بالذات سبق أن كان من المهاجرين أنفسهم المنصوص عليه في قوله تعالى:
{ لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } [الحشر: 8] فكانت لهم ديار، وكانت عندهم أموال وأخرجوا منها كلها، فلئن كان الأنصار واسوا إخوانهم المهاجرين ببعض أموالهم، وقاسموهم ممتلكاتهم، فإن المهاجرين لم ينزلوا عن بعض أموالهم فحسب، بل تركوها كلها. أموالهم وديارهم وأولادهم وأهلهم، فصاروا فقراء بعد إخراجهم من ديارهم وأموالهم. ومن يخرج من كل ماله ودياره ويترك أهله وأولاده، لا يكون أقل تضحية ممن آثر غيره ببعض ماله، وهو مستقر في أهله ودياره، فكأن الله عوضهم بهذا الفيء عما فات عنهم.
وقد ذكر ابن كثيررحمه الله : أنه صلى الله عليه وسلم قال للأنصار ما يشعر بهذا المعنى، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
"إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم فقالوا يا رسول الله: أموالنا بيننا قطائع" الحديث.
أي أن الأنصار عرفوا ذلك للمهاجرين، وعليه أيضاً، فقد استوى المهاجرون مع الأنصار في هذا الوصف المثالي الكريم، وكان خلقاً لكثيرين منهم بعد الهجرة كما فعل الصديق رضي الله عنه حين تصدق بكل ماله فقال له، رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما أبقيت لأهلك" ؟ فقال رضي الله عنه: أبقيت لهم الله ورسوله. وكذلك عائشة الصديقة رضي الله عنها. حينما كانت صائمة وليس عندها سوى قرص من الشعير وجاء سائل فقالت لبريرة: ادفعي إليه ما عندك، فقالت: لها: ليس إلا ما ستفطرين عليه، فقالت لها: ادفعيه إليه، ولعلها أحوج إليه الآن، أو كما قالت.
ولما جاء المغرب أهدى إليهم رجل شاة بقرامها - وقرامها هو ما كانت العرب تفعله إذا أرادوا شواء شاة طلوها من الخارج بالعجين حفظاً لها من رماد الجمر - فقالت لبريرة: كلي، هذا خير من قرصك.
وكما فعل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تصدق بالعير وما تحمله من تجارة حين قدمت، والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فخرج الناس إليها.
فعلى هذا، كان مجتمع المدينة في عهده صلى الله عليه وسلم مجتمعاً متكافلاً بعضهم أولياء بعض، وقد نوَّه صلى الله عليه وسلم في قصة غنائم حنين بفضل كلا الفريقين في قوله صلى الله عليه وسلم:
"لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار"
ومن بعده عمر رضي الله عنه قال: وأوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم كرامتهم. وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوأوا الدار والإيمان، من قبل أن يقبل من محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم.
ثم كان هذا خلق المهاجرين والأنصار جميعاً، كما وقع في وقعة اليرموك، قال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي، ومعي شيء من الماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به فقلت له: أسقيك؟ فأشار برأسه أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه آه، فأشار إلي ابن عمي أن أنطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت أسقيك؟ فأشار أن نعم، فسمع آخر يقول آه آه. فأشار هشام أن أنطلق إليه فجئته، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
وكان منهج الخواص من بعدهم، كما نقل القرطبي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال: ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ، قدم علينا حاجاً فقال لي: ما حد الزهد عندكم؟ فقلت: إن وجدنا أكلنا، وإن فقدنا صبرنا، فقال: هكذا كلاب بلخ عندنا. فقلت: وما حد الزهد عندكم؟ قال: إن فقدنا شكرنا وإن وجدنا آثرنا.
وفي قوله:
{ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [الحشر: 9]. الإيثار على النفس: تقديم الغير عليها مع الحاجة، والخصاصة: التي تختل بها الحال، وأصلها من الاختصاص، وهو الانفراد في الأمر. فالخصاصة الانفراد بالحاجة أي ولو كان بهم فاقة وحاجة. ومنه قول الشاعر:

أما الربيع إذا تكون خصاصة عاش السقيم به وأثرى المقتر

وهل يصح الإيثار من كل إنسان ولو كان ذا عيال أو تلزمه نفقة غيره أم لا؟ وما علاقته مع قوله { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْو } [البقرة: 219]؟
والجواب على هذا كله في كلام الشيخرحمه الله على قوله تعالى:
{ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [البقرة: 3] في أول سورة البقرة.
قالرحمه الله : قوله تعالى: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }، عبر في هذه الآية الكريمة بمن التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه الله بعض ماله لا كله، ولم يبين هنا القدر الَّذي ينبغي إنفاقه، والذي ينبغي إمساكه، ولكنه بين في مواضع أخرى أن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد على الحاجة، وسد الخلَّة التي لا بد منها، وذلك كقوله: { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ }، والمراد بالعفو الزائد على قدر الحاجة التي لا بد منها على أصح التفسيرات، وهو مذهب الجمهور ومنه قوله تعالى:
{ حَتَّىٰ عَفَوْاْ } [الأعراف: 95] أي كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم.
وقال بعض العلماء: العفو نقيض الجهد، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع.
ومنه قول الشاعر:

خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

وهذا القول راجع إلى ما ذكرنا، وبقية الأقوال ضعيفة، وقوله تعالى: { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [الإسراء: 29] فنهاه عن البخل بقوله: { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِك }، ونهاه عن الإسراف بقوله: { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ }، فيتعين الوسط بين الأمرين، كما بينه بقوله: { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [الفرقان: 67].
فيجب على المنفق أن يفرق بين الجود والتبذير وبين البخل والإقتار، فالجود غير التبذير، والاقتصاد غير البخل فالمنع في محل الإعطاء مذموم، وقد نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:
{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } [الإسراء: 29]، والإعطاء في محل المنع مذموم أيضاً، وقد نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [الإسراء: 29].
وقد قال الشاعر:

لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت يداه كالمزن حتى تخجل الديما
فإنها خطرات من وساوسه يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما

وقد بين تعالى في مواضع أخرى، أن الإنفاق المحمود لا يكون كذلك إلا إذا كان مصرفه الذي صرف منه مما يرضي الله كقوله تعالى: { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ } [البقرة: 215] الآية، وصرح في أن الإنفاق فيما لا يرضي الله حسرة على صاحبه في قوله: { فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } [الأنفال: 36].
وقد قال الشاعر:

إن الصنيعة لا تعد صنيعة حتى يصاب بها طريق المصنع

فإن قيل: هذا الذي قررتم يقتضي أن الإنفاق المحمود هو إنفاق ما زاد عن الحاجة الضرورية، مع أن الله تعالى أثنى على قوم بالإنفاق وهم في حاجة إلى ما أنفقوا، وذلك في قوله: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [الحشر: 9].
فالظاهر في الجواب والله تعالى أعلم: هو ما ذكره بعض العلماء من أن لكل مقام مقالاً، ففي بعض الأحوال يكون الإيثار ممنوعاً، وذلك كما إذا كانت على المنفق واجبة كنفقة الزوجات ونحوها، فتبرع بالإنفاق في غير واجب، وترك الفرض لقوله صلى الله عليه وسلم:
"وابدأ بمن تعول" ، وكأن يكون لا صبر عنده عن سؤال الناس فينفق ماله، ويرجع إلى الناس يسألهم مالهم، فلا يجوز له ذلك؟ والإيثار فيما إذا كان لم يضيع نفقة واجبة، وكان واثقاً من نفسه بالصبر والتعفف وعدم السؤال.
وأما على القول بأن قوله تعالى:
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُم يُنفِقُونَ } [البقرة: 3] يعني به الزكاة، فالأمر واضح، والعلم عند الله تعالى. انتهى منه.
والواقع أن للإنفاق في القرآن مراتب ثلاثة:
الأولى: الإنفاق من بعض المال بصفة عامة، كما في قوله تعالى: { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }.
الثانية: الإنفاق مما يحبه الإنسان ويحرص عليه، كما في قوله تعالى
{ وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ } [البقرة: 177]، وهذا أخص من الأول، وقوله: { وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } [الإنسان: 8] الآية.
الثالثة: الإنفاق مع الإيثار على النفس كهذه الآية
{ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [الحشر: 9] فهي أخص من الخاص الأول.
وتعتبر المرتبة الأولى هي الحد الأدنى في الواجب، حتى قيل: إن المراد بها الزكاة. وهي تشمل النافلة، وتصدق على أدنى شيء ولو شق تمرة، وتدخل في قوله تعالى:
{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [الزلزلة: 7] وتعتبر المرتبة الثالثة هي الحد الأقصى، لأنها إيثار للغير على خاصة النفس، والمرتبة الثانية هي الوسطى بينهما، وهي الحد الوسط بين الاكتفاء بأقل الواجب، وبين الإيثار على النفس وهي ميزان التوسط لعامة الناس، كما بينه تعالى بقوله: { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [الإسراء: 29]. وكما امتدح الله تعالى قوماً بالاعتدال في قوله: { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [الفرقان: 67].
وهذا هو عين تطبيق قاعدة الفلسفة الأخلاقية القائلة: "الفضيلة وسط بين طرفين" أي طرفي الإفراط والتفريط. فالشجاعة مثلاً وسط بين التهور والجبن، والكرم وسط بين التبذير والتقتير.
والإنفاق جوانب متعددة، وأحكام متفاوتة، قد بين الشيخرحمه الله جانباً من الأحكام، وقد بين القرآن الجوانب الأخرى، وتنحصر في الآتي: نوع ما يقع منه الإنفاق، الجهة المنفق عليها، موقف المنفق، وصورة الإنفاق.
أما ما يقع منه الإنفاق: قد بينه تعالى أولاً من كسب حلال لقوله تعالى:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ ٱلأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [البقرة: 267].
وقوله تعالى:
{ لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [آل عمران: 92].
أما الجهة المنفق عليها: فكما في قوله تعالى:
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [البقرة: 215] فبدأ بالوالدين براً لهما، وثنَّى بالأقربين.
وقال صلى الله عليه وسلم:
"الصدقة على القريب صدقة وصلة، وعلى البعيد صدقة" ثم اليتامى وهذا واجب إنساني وتكافل اجتماعي، لأن يتيم اليوم منفق الغد، وولد الأبوين اليوم قد يكون يتيماً غداً، أي أن من أحسن إلى اليتيم اليوم قد يترك أيتاماً، فيحسن عليهم ذلك اليتيم الذي أحسنت إليه بالأمس، والمساكين وابن السبيل أمور عامة.
وجاء بالقاعدة العامة التي يحاسب الله تعالى عليها ويجازي صاحبها
{ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } [البقرة: 215] - أي مطلقاً - { فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [البقرة: 215]، وكفى في ذلك علمه تعالى.
أما موقف المنفق وصورة الإنفاق: فإن هذا هو سر النفقة في الإسلام، وفلسفة الإنفاق كلها تظهر في هذا الجانب، مما تميز به الإسلام دون غيره من جميع الأديان أو النظم.
لأنه يركز على الحفاظ على شعور وإحساس المسكين، بحيث لا يشعره بجرح المسكنة، ولا ذلة الفاقة كما في قوله تعالى:
{ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 262].
ثم فاضل بين الكلمة الطيبة والصدقة المؤذية في قوله تعالى:
{ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } [البقرة: 263] يعطي ولا يمن بالعطاء.
وأفهم المنفقين أن المنّ والأذى يبطل الصدقة
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ } [البقرة: 264] لما فيه من جرح شعور المسكين.
وقد حثَّ على إخفائها إمعاناً في الحفاظ على شعوره وإحساسه
{ إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ } [البقرة: 271] - أي مع الآداب السابقة - { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [البقرة: 271] أي لكم أنتم في حفظ ثوابها.
وقد
"جعل صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه" ، وكما قال تعالى: { ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 274].
ومن خصائص الإسلام في هذا الباب أنه كما أدب الأغنياء في طريقة الإنفاق، فقد أدب الفقراء في طريقة الأخذ. وذلك في قوله تعالى:
{ لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي ٱلأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً } [البقرة: 273].