التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
٢
كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ
٣
إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ
٤
-الصف

أضواء البيان في تفسير القرآن

في الآية الأولى إنكار على الذين يقولون ما لا يفعلون، وفي الآية الثانية بيان شدة غضب الله ومقته على من يكون كذلك، ولكن لم يبين هنا القول المغاير للفعل المنهى عنه، والمعاتبون عليه والمستوجب لشدة الغضب إلا أن مجيء الآية الثالثة بعدهما يشعر بموضوع القول والفعل، وهو الجهاد في سبيل الله.
وقد اتفقت كلمة علماء التفسير على أن سبب النزول مع تعدده عندهم: أنه حول الجهاد في سبيل الله من رغبة في الإذن لهم في الجهاد ومعرفة أحب الأعمال إلى الله، ونحو ذلك.
وقد بين القرآن في عدة مواضع أن موضع الآيتين الأولى والثانية فيما يتعلق بالجهاد وتمنيهم إياه.
من ذلك قوله تعالى عنهم:
{ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلْقِتَالُ رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ } [محمد: 20].
ومنها قوله تعالى:
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } [النساء: 77].
ومنها قوله تعالى:
{ وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ ٱللَّهِ مَسْئُولاً } [الأحزاب: 15].
ففي الآية الأولى تمنوا نزول سورة يؤذن فيها بالقتال، فلما نزلت صار مرضى القلوب كالمغشي عليه من الموت.
وفي الثانية: قيل لهم كفوا أيديكم عن القتال، فتمنوا الإذن لهم فيه، فلما كتب عليهم رجعوا وتمنوا لو أخروا إلى أجل قريب.
وفي الثالثة: أعطوا العهود على الثبات وعدم التولي، وكان عهد الله مسؤولاً، فلما كان في أحد وقع ما وقع وكذلك في حنين، ويشهد لهذا أيضاً قوله تعالى:
{ وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ يٰأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَٱرْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ ٱلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ ٱلأَدْبَارَ } [الأحزاب: 13-15] الآية.
ففي هذا السياق بيان لعتابهم على نقض العهد، وهو معنى: لم تقولون ما لا تفعلون سواء بسواء، ويقلل هذا أن الله تعالى امتدح طائفة أخرى منهم حين أوفوا بالعهد وصدقوا ما عاهدوا الله عليه في قوله تعالى:
{ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } [الأحزاب: 23].
ثم بين الفرق بين الفريقين بقوله بعدها
{ لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } [الأحزاب: 24-25] الآية، وذلك في غزوة الأحزاب.
فتبين بهذا أن الفعل المغاير للقول هنا هو عدم الوفاء بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم من قبل فاستوجبوا العتاب عليه، كما تبين أن الذين وفوا بالعهد استوجبوا الثناء على الوفاء، وقد استدل بالآية من عموم لفظها على الإنكار على كل من خالف قوله فعله، سواء في عهد أو وعد أو أمر أو نهي.
ففي الأمر والنهي كقوله تعالى:
{ أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } [البقرة: 44].
وكقوله عن نبي الله شعيب لقومه:
{ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } [هود: 88].
وفي العهد قوله:
{ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } [الإسراء: 34].
ومن هذا الوجه، فقد بحثها الشيخ رحمة الله تعالى عليه في عدة مواضع، منها في سورة هود عند قول شعيب المذكور.
ومنها عند قوله تعالى:
{ وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ ٱلْوَعْدِ } [مريم: 54] في سورة مريم.
وبحث فيها الوفاء بالوعد، والفرق بين الوعد والوعيد، والوفاء بالوعد والخلف في الوعيد، وعقد لها مسألة، وساق آيتي الصف هناك.
قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوص }.
اختلف علماء التفسير في المراد بالبنيان المرصوص، فنقل بعضهم عن الفراء: أنه المتلاحم بالرصاص لشدة قوته، والجمهور: أنه المتلاصق المتراص المتساوي.
والواقع أن المراد بالتشبيه هنا هو وجه الشبه، ولا يصح أن يكون هنا هو شكل البناء لا في تلاحمه بالرصاص، وعدم انفكاكه ولا تساويه وتراصه، لأن ذلك يتنافى وطبيعة الكر والفر في أرض المعركة، ولكل وقعة نظامها حسب موقعها.
والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن وجه الشبه المراد هنا هو عموم القوة والوحدة.
قال الزمخشري: يجوز أن يريد استواء بنائهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص اهـ.
ويدل لهذا الآتي:
أولاً قوله تعالى:
{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ ٱلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [آل عمران: 121].
فالمقاعد هنا هي المواقع للجماعات من الجيش، وهي التعبئة حسب ظروف الموقعة، كما فعل صلى الله عليه وسلم في وضع الرماة في غزوة أحد حماية لظهورهم من التفاف العدو بهم لطبيعة المكان، وكما فعل في غزوة بدر ورصهم سواهم بقضيب في يده أيضاً لطبيعة المكان.
وهكذا، فلا بد في كل وقعة من مراعاة موقعها، بل وظروف السلاح والمقاتلة.
وقد ذكر صاحب الجمان في تشبيهات القرآن أجزاء الجيش وتقسيماته بصفة عامة من قلب وميمنة وميسره وأجنحة، ونحو ذلك فيكون وجه الشبه هو الارتباط المعنوي والشعور بالمسؤولية والإحساس بالواجب كما فعل الحباب بن المنذر في غزوة بدر حين نظر إلى منزل المسلمين من الموقع فلم يرقه، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجابه فأبدى خطة جديدة فأخذ بها صلى الله عليه وسلم وغيَّر الموقع من مكان المعركة.
وثانياً قوله تعالى:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } [الأنفال: 45-46].
فذكر تعالى من عوامل النصر: الثبات عند اللقاء، وذكر الله والطاعة، والامتثال، والحفاظ عليها بعدم التنازع والصبر عند الحملة والمجالدة، فتكون حملة رجل واحد، وكلها داخلة تحت معنى البنيان المرصوص في قوته وحمايته وثباته، وقد عاب تعالى على اليهود تشتت قلوبهم عند القتال في قوله تعالى:
{ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى } [الحشر: 14]، وامتجح المؤمنين في قتالهم بوحدتهم كأنهم بنيان مرصوص.
وقد جاءت السنة بهذا التشبيه للتعاون في قوله صلى الله عليه وسلم:
"المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً"
فهو يبين المراد من وجه الشبه في البنيان المرصوص هنا، وقد أثر عن أبي موسى رضي الله عنه قوله لأصحابه: الزموا الطاعة فإنها حصن المحارب.
وعن أكثم بن صيفي: أقلوا الخلاف على أمرأئكم، وإن المسلمين اليوم لأحوج ما يكونون إلى الالتزام بهذا التوجيه القرآني الكريم، إزاء قضيتهم العامة مع عدوهم المشترك، ولا سيما، وقد مر العالم الإسلامي بعده تجارب في تاريخهم الطويل وكان لهم منها أوضح العبر، ولهم في هذا المنهج القرآني أكبر موجب لاسترجاع حقوقهم والحفاظ على كيانهم، فضلاً عن أنه العمل الذي يحبه الله من عباده، وبالله تعالى التوفيق.