التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ
٥
-الصف

أضواء البيان في تفسير القرآن

قول موسى عليه السلام: لم تؤذونني؟ لم يبين نوع هذا الإيذاء وقد جاء مثل هذا الإجمال في قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَىٰ فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُواْ } [الأحزاب: 69].
وأحال عليه ابن كثير في تفسيره، وساق حديث البخاري أنه صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما يتستر هذا التستر إلا من عيب في جلده، إما برص وإما أدرة وإما آفة، وأن الله عز وجل أراد أن يبرئه مما قالوا فخلا يوماً وحده فخلع ثيابه على حجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها، وأن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأه عرياناً أحسن ما خلق الله عز وجل وبرأه مما يقولون إلى آخر القصة".
ونقله غيره من المفسرين عندها، وعلى هذا يكون إيذاؤهم إياه إيذاء شخصياً بادعاء العيب فيه خلقة، وهذا وإن صح في آية الأحزاب لقوله تعالى: { فَبرَّأَهُ ٱللَّهُ مِمَّا قَالُوا }، فإنه لا يصح في آية الصف هذه لأن قول لهم. { وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّه إِلَيْكُمْ } مما يثير إلى أن الإيذاء في جانب الرسالة لا في جانبه الشخصي، ويرشح له قوله تعالى بعده مباشرة: { فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ }.
أي فلما زاغوا بما آذوا به موسى، فيكون إيذاء قومه له هنا إيذاء زيغ وضلال، وقد آذوه كثيراً في ذلك كما بينه تعالى في قوله عنهم:
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } [البقرة: 55].
وكذلك قوله تعالى:
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [البقرة: 93].
فها هم يؤخذ الميثاق عليهم ويرفع فوقهم الطور، ويقال لهم: { خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُوا } فكله يساوي قوله: { وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّه إِلَيْكُمْ }، لأن قد هنا للتحقيق، ومع ذلك يؤذونه بقولهم: { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } ويؤذونه بأن أشربوا في قلوبهم حب العجل وعبادته بكفرهم، ولذا قال لهم: { بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِين }.
وقد جمع إيذاء الكفار لرسول الله مع إيذاء قوم موسى لموسى في قوله تعالى:
{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذٰلِكَ فَقَالُوۤاْ أَرِنَا ٱللَّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ } [النساء: 153] الآية.
ومن مجموع هذا يتبين أن الإيذاء المنصوص عليه هنا هو في خصوص الرسالة، ولا مانع من أنهم آذوه بأنواع من الإيذاء في شخصه، وفي ما جاء به فبرأه الله مما قالوا في آية الأحزاب وعاقبهم على إيذائه فيما أرسل به إليهم بزيغ قلوبهم، والعلم عند الله تعالى.
وقوله: { فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ }، تقدم كلام الشيخ رحمة الله تعالى عليه على هذا المعنى في سورة الروم، عند الكلام على قوله تعالى:
{ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ ٱلسُّوۤءَىٰ أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } [الروم: 10] الآية.
وقال: إن الكفر والتكذيب قد يؤدي شؤمه إلى شقاء صاحبه، وسارق هذه الآية { فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وقوله:
{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } [البقرة: 10].
وأحال على سورة بني إسرائيل على قوله:
{ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ آذَانِهِمْ وَقْراً } [الإسراء: 46].
وعلى سورة الأعراف على قوله:
{ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلْكَافِرِينَ } [الأعراف: 101].
ومما يشهد لهذا المعنى العام بقياس العكس قوله تعالى:
{ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [محمد: 17] وأمثالها.
ومما يلفت النظر هنا إسناد الزيغ للقلوب في قوله تعالى:{ فَلَمَّا زَاغُوۤاْ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمْ }.
وأن والهداية أيضاً للقلب كما في قوله تعالى:
{ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [التغابن: 11].
ولذا حرص المؤمنين على هذا الدعاء:
{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } [آل عمران: 8] فتضمن المعنيين، والعلم عند الله تعالى.