التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٢
خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ
٣
يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٤
-التغابن

أضواء البيان في تفسير القرآن

قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، في مذكرة الدراسة: المعنى أن الله هو الذي خلقكم وقدَّر على قوم منكم الكفر، وعلى قوم منكم الإيمان، ثم بعد ذلك يهدي كلاً لما قدره عليه كما قال: { وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [الأعلى: 3] فيسر الكافر إلى العمل بالكفر، ويسر المؤمن للعمل بالإيمان، كما قال صلى الله عليه وسلم: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" اهـ.
ومن المعلوم أن هذا النص من مأزق القدرية والجبرية، وأن أهل السنة يؤمنون أن كلاً بقدر الله ومشيئته. كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: وهم أهل السنة وسط بين قول: إن العبد مجبور على عمله لا اختيار له كالورقة في مهب الريح.
وبين قول: إن العبد يخلق فعله بنفسه ويفعل ما يريده بمشيئته.
وأهل السنة يقولون بقوله تعالى:
{ لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } [التكوير: 28-29].
وقد ذكر القرطبي أقوال الطائفتين من أهل العلم، ولكل طائفة ما استدلت به، الأولى عن ابن مسعود أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:
"خلق الله فرعون في بطن أمه كافراً، وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمناً" .
وبما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لم يبق بينه وبينها إلا ذراع أو باع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" .
وقال: قال علماؤنا: تعلق العلم الأزلي بكل معلوم. فيجري ما علم وأراد وحكم.
الثانية ما جاء في قوله: وقال جماعة من أهل العلم: إنَّ الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا. قالوا: وتمام الكلام: وهو الذي خلقكم، ثم وصفهم فقال: { فَمِنكُمْ كَافِرُ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ }.
وكقوله تعالى:
{ وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ } [النور: 45]، قالوا فالله خلقهم والمشي فعلهم.
واختاره الحسين بن الفضل، قال: لأنه لو خلقهم كافرين ومؤمنين لما وصفهم بفعلهم، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم:
"كل مولود يولد على الفطرة" الحديث اهـ.
وبالنظر في هاتين المقالتين نجد الآتي:
أولاً: التشبيه في المقالة الثانية لا يسلم، لأن وصف الدواب في حالة المشي ليس وصفاً فعلياً، وإنما هو من ضمن خلقه تعالى لها ولم يكن منها فعل في ذلك.
ثانياً: ما استدلت به كل طائفة من الحديثين لا تعارض بينهما، لأن الحديث الأول،
"إن أحدكم ليعمل" لبيان المصير والمنتهى، وفق العلم الأزلي والإرادة القدرية.
والحديث الثاني لبيان مبدأ وجود الإنسان في الدنيا وأنه يولد على الفطرة حينما يولد. أما مصيره فبحسب ما قدر الله عليه.
وقد نقل القرطبي كلاماً للزجاج وقال عنه: هو أحسن الأقوال ونصه: إن الله خلق الكافر، وكفره فعل له وكسب، مع أن الله خالق الكفر وخلق المؤمن. وإيمانه فعل له وكسب، مع أن الله خالق الإيمان. والكافر يكفر ويختار الكفر بعد أن خلق الله إياه، لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه، لأن وجود خلاف المقدر عجز، ووجود خلاف المعلوم جهل.
قال القرطبي: وهذا أحسن الأقوال، وهو الذي عليه جمهور الأمة اهـ.
ولعل مما يشهد لقول الزجاج قوله تعالى:
{ وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات: 96].
هذا حاصل ما قاله علماء التفسير، وهذا الموقف كما قدمنا من مأزق القدر والجبر، وقد زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام، وبتأمل النص وما يكتنفه من نصوص في السياق مما قبله وبعده: نجد الجواب الصحيح والتوجيه السليم، وذلك ابتداء من قوله تعالى:
{ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [التغابن: 1].
فكون الملك له لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، وكونه على كل شيء قدير يفعل في ملكه ما يريد.
ثم قال: { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.
ثم جاء بعدها قوله تعالى: { خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَٱللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ }.
فخلق السماوات والأرض وخلق الإنسان في أحسن صورة آيتان من آيات الدلالة على البعث، كما قال تعالى في الأولى:
{ لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } [غافر: 57].
وقال في الثانية:
{ قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس: 79].
ولذا جاء عقبها قوله: { وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ }.
أي بعد الموت والبعث. فكأنه يقول لهم: هو الذي خلقكم وخلق لكم آيات قدرته على بعثكم، من ذلك خلق السماوات والأرض، ومن ذلك خلقكم وتصويركم في أحسن تقويم، فكأن موجب ذلك الإيمان بقدرته تعالى على بعثكم بعد الموت، وبالتالي إيمانكم بما بعد البعث، من حساب وجزاء وجنة ونار، ولكن فمنكم كافر ومنكم مؤمن.
وقد جاء بعد ذكر الأمم قبلهم: وبيان أحوالهم جاء تفنيد زعم الكفار بالبعث والإقسام على وقوعه في قوله تعالى:
{ زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } [التغابن: 7]. لأن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس. ويشهد لهذا التوجيه في قوله تعالى في سورة الإنسان: { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [الإنسان: 1-3].
فقوله تعالى:
{ إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } [الإنسان: 2] كقوله تعالى: { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ } [التغابن: 2].
ثم قال:
{ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } [الإنسان: 2] وهما حاستا الإدراك والتأمل، فقال: { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } [الإنسان: 3] مع استعداده للقبول والرفض.
وقوله:
{ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [الإنسان: 3] مثل قوله هنا: { فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } [التغابن: 2] أي بعد التأمل والنظر وهداية السبيل بالوحي، ولذا جاء في هذا السياق في هذه السورة { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا } [التغابن: 8].
وبكل ما تقدم في الجملة يظهر لنا أن الله خلق الإنسان من نطفة ثم جعل له سمعاً وبصراً ونصب الأدلة على وجوده وقدرته على بعث الموتى، ومن ثم مجازاتهم على أعمالهم وأرسل إليه رسله وهداه النجدين، ثم هو بعد ذلك إما شاكراً وإما كفوراً ولو احتج إنسان في الدنيا بالقدر لقيل له: هل عندك علم بما سبق في علم الله عليك، أم أن الله أمرك ونهاك وبين لك الطريق.
وعلى كل، فإن قضية القدر من أخطر القضايا وأغمضها، كما قال علي رضي الله عنه: القدر سرّ الله في خلقه.
وقال صلى الله عليه وسلم:
"إذا ذُكر القضاء فأمسِكوا" ، ولكن على المسلم النظر فيما أنزل الله من وحي وبعث من رسل.
وأهم ما في الأمر هو جري الأمور على مشيئة الله وقد جاء موقف عملي في قصة بدر، يوضح حقيقة القدر ويظهر غاية العبر في قوله تعالى:
{ إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } [الأنفال: 43].
فهو تعالى الذي سلم من موجبات التنازع والفشل بمقتضى علمه بذات الصدور.
ثم قال:
{ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِيۤ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِيۤ أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } [الأنفال: 44]، فقد أجرى الأسباب على مقتضى إرادته فقلل كلاً من الفريقين في أعين الآخر ليقضي الله أمراً كان في سابق علمه مفعولاً، ثم بين المنتهى، { وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ }، والعلم عند الله تعالى.