التفاسير

< >
عرض

وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ٱللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
٣
-الطلاق

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً }.
بعد الأمر بإحصاء العدة، وكون العدد مختلفة الأنواع من إقراء إلى أشهر إلى وضع الحمل، والمعتدات متفاوتات الإقراء وأمد الحمل، فقد تكون في أوله أو وسطه أو آخره، وكل ذلك لا بد من إحصائه لما يترتب عليه من حرمة وحيلة، فتخرج من عدة هذا وتحل لذاك.
كما قال تعالى:
{ وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ } [البقرة: 235] وهذا كله لا يتأتى إلا بالإحصاء.
والإحصاء لا يكون إلا لمقدر معلوم، وعليه فقوله تعالى: { قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } مؤكد لهذا كله، وكذلك فيه نص صريح أنه تعالى قد جعل لكل شيء من الأشياء أياً كان هو قدراً لا يتعداه لا بزيادة ولا بنقص، ولفظ شيء أعم العمومات.
وقد جاءت آيات كثيرة دالة على هذا العموم عامة وخاصة، فمن الآيات العامة قوله تعالى:
{ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [القمر: 49].
وقوله:
{ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [الفرقان: 2].
وقوله:
{ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } [الرعد: 8].
وقد جمع العام والخاص قوله:
{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [الحجر: 21].
ومن التقدير الخاص في مخصوص قوله:
{ وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تُدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلْلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [يس: 38-40].
إنها قدرة باهرة وحكمة بالغة، وإرادة قاهرة، وسلطة غالبة، قدرة من أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
وقد قال العلماء الهيئة: أن حساب مسير هذه الأفلاك في منازلها أدق ما يكون من مآت أجزاء الثانية، ولو اختلف جزء من الثانية لاختل نظام العالم ولما صلحت على وجه الأرض حياة، ونحن نشاهد حركة الليل والنهار ونقصانهما وزيادتهما وفصول السنة كما قال تعالى:
{ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ } [المزمل: 20].
وهو سبحانه وتعالى يحصيه، وكذلك التقدير لوجود الإنسان قبل وبعد وجوده، قال تعالى:
{ مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } [عبس: 18-19] أي قدر خلقه وصورته ونوعه كما بين ذلك بقوله: { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } [الشورى: 49-50] الآية. إلى قوله: { إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [الشورى: 49-50].
وهذا أيضاً من آيات قدرته يرد بها سبحانه على من جحد وجود الله وكفر بالبعث كما في مستهلها قوله تعالى:
{ قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ } [عبس: 17-18].
ثم بين تعالى أنه خلقه من نطفة ماء مهين، ولكن قدر الله تعالى قدرتها وصورتها حتى صارت خلقاً سوياً، وجعل له وهو في بطن أمه عينين ولساناً وشفتين أي وأنفاً وأذنين ويدين ورجلين وكل جهاز فيه حير الحكماء في صنعه ونظامه.
ثم قدر تعالى أرزاقه على الأرض قبل وجوده يوم خلق الأرض، وجعله آية على قدرته وعاتب الإنسان على كفره:
{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } [فصلت: 9-10].
وبعد وجود الكون وخلق الإنسان في الإيجاد بإنزال المطر،
{ فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً } [عبس: 24-28].
ثم إن صب هذا الماء كان بقدر، كما في قوله تعالى:
{ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ } [المؤمنون: 18].
وقوله:
{ وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ } [الشورى: 27] أي بقدر ما يصلحهم ولو زاده لفسد حالهم، كما في قوله قبلها { وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ وَلَـٰكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ } [الشورى: 27] وبقدر مصلحتهم ينزل لهم أرزاقهم.
كما نبه على ذلك بقوله:
{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [العلق: 6-7].
هذه لمحة عن حكمة تقدير العزيز الحكيم الذي أحسن كل شيء خلقه، والذي قدر الأشياء قبل وجودها كما في قوله:
{ وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [الأعلى: 3].
وكما في حديث القلم وكتابة كل شيء قبل وجوده بزمانه ومكانه ومقداره وبيان عجز قدرة الخالق وعجز المخلوق كما في قوله تعالى:
{ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [النحل: 61].
وكقوله:
{ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } [فاطر: 11] أي لا يتعداه ولا يتخطاه، وقد تحداهم الله في ذلك بقوله: { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [الواقعة: 83-87] كلا إنهم مدينون ولن يستطيعوا إرجاعها.
وهنا يقال للدهريين والشيوعيين الذين لا يعترفون بوجود فاعل مختار وعزيز قهار، إن هذا الكون بتقديراته ونظمه لآية شاهدة وبينة عادلة على وجود الله سبحانه وتعالى:
{ فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [يس: 83].
كما يقال للمؤمنين أيضاً إن ما قدره الله نافذ، وما قدر للعبد آتيه، وما لم يقدر له لن يصل إليه، طويت الصحف وجفت الأقلام
{ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } [الحديد: 23].
ويقال مرة أخرى: اعملوا كل ميسر لما خلق له، وبالله تعالى التوفيق.