التفاسير

< >
عرض

سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ
١
-المعارج

أضواء البيان في تفسير القرآن

المعلوم أن مادة سأل لا تتعدى بالياء، كتعديها هنا. ولذا قال ابن كثير: إن الفعل ضمن معنى فعل آخر يتعدى بالباء وهو مقدر ما استعجل، واستدل لذلك بقوله تعالى: { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ } [الحج: 47]، وذكر عن مجاهد أن سأل بمعنى دعا.
واستدل له بقوله تعالى عنهم:
{ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال: 32]، وذكر هذا القول ابن جرير أيضاً عن مجاهد.
وقرئ سال بدون همزة من السيل، ذكرها ابن كثير وابن جرير، وقالوا: هو واد في جهنَّم، وقيل: مخفف سأل اهـ.
ولعل مما يرجح قول ابن جرير أن الفعل ضمن معنى مثل آخر قوله تعالى:
{ يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } [الشورى: 18] الآية.
وتقدم للشّيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان هذا المعنى عند الكلام على قوله تعالى:
{ وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [الأنفال: 32] وأحال على سورة سأل وقال وسيأتي زيادة إيضاح إن شاء الله.
وقد بين هناك أن قولهم يدل على جهالتهم حيث لم يطلبوا الهداية إليه إن كان هو الحق.
وحيث انهرحمه الله أحال على هذه السورة لزيادة الإيضاح فإن المناسب إنما هو هذه الآية: { سَأَلَ سَآئِلُ } بمعنى استعجل أو دعا لوجود الارتباط بين آية سأل، وآية { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ }. المذكورة. فإنَّهما مرتبطان بسبب النزول.
كما قال ابن جرير وغيره عن مجاهد في قوله تعالى: { سَأَلَ سَآئِلُ } قال: دعا داع بعذاب واقع. قال: هو قولهم { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا } الآية. والقائل هو النضر بن الحارث بن كلدة.
والإيضاح المنوه عنه يمكن استنتاجه من هذا الربط ومن قولهرحمه الله : إنه يدل على جهالتهم وبيان ما إذا كان هذا العذاب الواقع هل وقوعه في الدنيا أم يوم القيامة.
والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن جهالة قريش دل عليها العقل والنقل، لأن العقل يقضي بطلب النفع ودفع الضر كما قيل:
لما نفع يسعى اللبيب فلا تكن ساعياً.
وأما النقل فلأن ما قص الله علينا أن سحرة فرعون وقد جاءوا متحدين غاية التحدي لموسى عليه السلام ولكنهم لما عاينوا الحق قالوا آمنا وخروا سجداً ولم يكابروا كما قضى الله علينا من نبئهم في كتابه قال تعالى:
{ فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوۤاْ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ } [طه: 70] ولما اعترض عليهم فرعون وقال: { آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ } [طه: 71] إلى آخر كلامه، قالوا وهو محل الشاهد هنا، لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ولم يبالوا بوعيده ولا بتهديده.
وقال في استخفاف: فاقض ما أنت قاض، فهم لما عاينوا البينات خروا سجداً أعلنوا إيمانهم وهؤلاء كفار قريش يقولون مقالتهم تلك.
أما وقوع العذاب المسؤول عنه فإنه واقع بهم يوم القيامة، وإنَّما عبَّر بالمضارع الدال على الحال للتأكيد على وقوعه، وكأنه مشاهد وقاله الفخر الرازي وقال هو نظير قوله تعالى:
{ أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [النحل: 1].
وفي قوله تعالى
{ لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلْمَعَارِجِ } [المعارج: 2-3] دليل على تأكيد وقوعه لأن ما ليس له دافع لا بد من وقوعه. أما متى يكون فقد دلّت آية الطور نظيره هذه أن ذلك سيكون يوم القيامة في قوله تعالى: { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } [الطور: 7-8] ثم بين ظرف وقوعه { يَوْمَ تَمُورُ ٱلسَّمَآءُ مَوْراً وَتَسِيرُ ٱلْجِبَالُ سَيْراً } [الطور: 9-10] وفي سياق هذه السورة في قوله تعالى: { يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ } [المعارج: 8-11] إلى قوله تعالى { تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ } [المعارج: 17-18] فإنها كلها من أحوال يوم القيامة، فدل بذلك على زمن وقوعه. ولعل في قوله تعالى { تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ } رد على أولئك المستخفين بالعذاب المستعجلين به مجازاة لهم بالمثل، كما دعوا وطلبوا لأنفسهم العذاب استخفافاً فهي تدعوهم إليها زجراً وتخويفاً مقابلة دعاء بدعاء، أي إن كنتم في الدنيا دعوتم بالعذاب فهذا هو العذاب يدوعكم إليه { تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ } عن سماع الدعوة وأعرض عنها وتولى وهذا الرد بهذه الصفات التي قبله من تغيير السماء كالمهل وتسيير الجبال كالعهن، وتقطع أواصر القرابة من الفزع والهول مما يخلع القلوب كام وقع بالفعل في الدنيا، كما ذكر القرطبي قصة جبير بن مطعم قال: قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر فسمعته يقرأ { وَٱلطُّورِ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ } [الطور: 1-2] إلى قوله تعالى: { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } [الطور : 7-8] فكأنما صدع قلبي فأسلمت خوفاً من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع العذاب.
وذكر القرطبي أيضاً عن هشام بن حسان قال: انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن وعنده رجل يقرأ والطور حتى بلغ { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } فبكى الحسن وبكى أصحابه فجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه.
وذكر ابن كثير عن عمر رضي الله عنه أنه كان يعس بالمدينة ذات ليلة إذ سمع رجل يقرأ بالطور قربا لها أعيد منها عشرين ليلة، فكان هذا الوصف المفزع رداً على ذاك الطلب المستخف والله تعالى أعلم. ونأمل أن نكون قد وفينا الإيضاح الذي أرادهرحمه الله تعالى.