التفاسير

< >
عرض

وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ
٣٣
-المعارج

أضواء البيان في تفسير القرآن

قرئ بشهاداتهم بالجمع وقرئ بشهادتهم بالإفراد، فقيل: إن الإفراد يؤدي معنى الجمع للمصدر كما في قوله: { إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ } [لقمان: 19]. فأفرد في الصوت مراداً به الأصوات.
وقيل: الإفراد لشهادة التوحيد مقيمون عليها. والجمع لتنوع الشهادات بحسب متعقلها، ولا تعارض بين الأمرين فما يشهد لذلك قوله تعالى:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ } [فصلت: 30].
قال أبو بكر رضي الله عنه: أي داموا على ذلك حتى ماتوا عليه.
وبدل للثاني عمومات آية الشهادة المتنوعة في البيع والطلاق والكتابة في الدين وغير ذلك، والله تعالى أعلم.
وفي هذه الآية عدة مسائل:
المسألة الأولى: أطلق القيام بالشهادة هنا وبين أن قيامهم بها إنما هو لله في قوله تعالى:
{ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَادَةَ لِلَّهِ } [الطلاق: 2]، وقوله: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىۤ أَنْفُسِكُمْ } [النساء: 135].
المسألة الثانية: قوله { بِشَهَادَاتِهِمْ قَآئِمُونَ } في معرض المدح، وإخراجهم من وصف
{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً } [المعارج: 19] يدل بمفهومه أن غير القائمين بشهاداتهم غير خارجين من ذلك الوصف الذميم.
وقد دلت آيات صريحة على هذا المفهوم، منها قوله تعالى:
{ وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [البقرة: 283]، وقوله: { وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ ٱلآَثِمِينَ } [المائدة: 106].
وكذلك في معرض المدح في وصف عباد الرحمن في قوله:
{ وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } [الفرقان: 72].
وفي الحديث من عظم جرم شهادة الزور، وكان صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس، فقال:
"ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت"
تنبيه
قوله: { وَٱلَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَآئِمُونَ } يفيد القيام بالشهادة مطلقاً، وجاء قوله:
{ وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ } [البقرة: 282] فقيد القيام بالشهادة بالدعوة إليها.
وفي الحديث:
"خير الشهود من يأتي بالشهادة قبل أن يسألها" .
وفي حديث آخر في ذم المبادرة بها، ويشهدون قبل أن يستشهدوا. وقد جمع العلماء بين الحديثين بأن الأول في حالة عدم معرفة المشهود له بما عنده له من شهادة، أو يتوقف على شهادته حق شرعي كرضاع وطلاق ونحوه، والثاني بعكس ذلك.
وقد نص ابن فرحون أن الشهادة في حق الله على قسمين، قسم تستديم فيه الحرمة كالنكاح والطلاق، فلا يتركها، وتركها جرحة في عدالته، وقسم لا تستديم فيه الحرمة كالزنى والشرب، فإن تركها أفضل ما لم يدع لأدائها. لحديث هذال في قصة ماعز حيث قال له صلى الله عليه وسلم:
"هلا سترته بردائك"
المسألة الثالثة: مواطن الشهادة الواردة في القرآن، والتي يجب القيام فيها، نسوقها على سبيل الإجمال.
الأول: الإشهاد في البيع في قوله تعالى:
{ وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [البقرة: 282].
الثاني: الطلاق، والرجعة لقوله تعالى:
{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُم } [الطلاق: 2].
الثالث: كتابة الدَّين لقوله تعالى:
{ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } [البقرة: 282] الآية.
الرابع: الوصية عند الموت لقوله تعالى:
{ يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } [المائدة: 106] الآية.
الخامس: دفع مال اليتيم إليه إذ رشد، قوله تعالى:
{ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } [النساء: 6].
السادس: إقامة الحدود لقوله تعالى:
{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [النور: 2] السابع: في السنة عقد النكاح لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" ، وهذه كلها مواطن هامة تتعلق بحقّ الله وحق العباد من حفظ للمال والعرض والنسب، وفي حق الحي والميت واليتيم والكبير، فهي في شتى مصالح الأمة استوجبت الحث على القيام بها { وَٱلَّذِينَ هُم بِشَهَادِاتِهِمْ قَآئِمُونَ } والتحذير من كتمانها { وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [البقرة: 283].
وقوله:
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ ٱللَّهِ } [البقرة: 140].
وقوله:
{ وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ } [البقرة: 282].
المسألة الرابعة: قوله تعالى:
{ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَآئِمُونَ } [المعارج: 33] كلها صيغ الجمع، والشهادة قد تكون من فرد، وقد تكون من اثنين، وقد تكون من ثلاثة، وقد تكون من أربعة، وقد تكون من جماعة.
وجملة ذلك أن الشهادة في الجملة من حث الشاهد تكون على النحو الآتي: إجالاً رجل واحد، ورجل ويمين، ورجل وامرأتان، ورجلان، وثلاثة رجال، وأربعة، وطائفة من المؤمنين، وامرأة، وامرأتان، وجماعة الصبيان.
وقد جاءت النصوص بذلك صريحة. أما الواحد، فقال تعالى:
{ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ } [يوسف: 26].
فهو، وإن كان ملفت النظر إلى القرينة في شق القميص، إلا أنه شاهد واحد.
وجاء في السنة: شهادة خزيمة رضي الله عنه، لما شهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بشراء الفرس من الأعرابي، وجعلها صلى الله عليه وسلم بشهادة رجلين.
وجاءت السنة بثبوت شهادة الطبيب والقائف والخارص ونحوهم.
وجاء في ثبوت رمضان، فقد قبل صلى الله عليه وسلم شهادة أعرابي، وقبل شهادة عبد الله بن عمر سواء كان قبولها اكتفاء بها أو احتياطاً لرمضان.
وأما شهادة الرجل الواحد ويمين المدعي، فلحديث ابن عباس
"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين" وتكلم عليه ابن عبد البر، وأطال في تصحيحه وتوجيهه.
وعند مالك ومذهب لأحمد شهادة امرأتين، ويمين المدعي، وخالفها الجمهور.
وأما شهادة رجل وامرأتين، فلقوله تعالى:
{ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ } [البقرة: 282] وبين تعالى توجيه ذلك بقوله: { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ } [البقرة: 282].
وبهذا النص رد الجمهور مذهب مالك، والمذهب المحكي عن أحمد لأنه لم ينقل إلا أربع نسوة ولم تستقل النسوية بالشهادة.
وأما شهادة الرجلين فلقوله تعالى:
{ وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُم } [البقرة: 282].
وأما ثلاثة رجال، فلقوله صلى الله عليه وسلم في إثبات الفاقة والإعسار.
"حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه، فيقولون، لقد أصابت فلانة فاقة" . الحديث، وهو حديث قبيصة عند مسلم وأحمد.
وأما الأربعة ففي إثبات الزنا خاصة، وقد بين الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ذلك في أول سورة النور.
وأما الطائفة ففي إقامة الحدود لقوله تعالى:
{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [النور: 2].
وأما شهادة المرأة ففي أحوال النساء خاصة، كما في حديث عقبة بن الحارث:
"جاءت امرأة إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أرضعتهما، فقال له صلى الله عليه وسلم فارقها، فقال: كيف أفارقها لقول امرأة؟ فقال له: كيف وقد قيل؟" وقد وقع الخلاف في قبول شهادتها وحدها ولكن الصحيح ما قدمنا.
وأما المرأتان فعند من لم يقبل شهادة المرأة، وقيل عند استهلال الصبي، لأن الغالب حضور أكثر من واحدة.
وأما جماعة الصبيان ففي جناياتهم على بعض، وقبل أن يتفرقوا ولم يدخل فيهم كبير. وفيه خلاف.
ورجح الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعيله العمل بها في مذكرة أصول الفقه، في مبحث رواية الصغار.
المسألة الخامسة: اتفقوا أنه لا دخل للنساء في الشهادة في الحدود، وإنما تكون في المال أو ما يؤول إلى المال، فيما يتعلق بما تحت الثياب من النساء.
وفي الشهادة مباحث عديدة مبسوطة في كتب الفقه وكتب القضاء، كتبصرة الحكام لابن فرحون وغيره.
وقد بسط ابن القيم الكلام عليها في الطرق الحكمية وابن فرحون في تبصرة الحكام لمن أحب الرجوع إليه، ولكن مما لا بد منه هو شروط الشاهد المعتبرة، وكلها تدور على ما تحصل به الطمأنينة إلى الحق المشهود به لأمرين أساسيين هما الضبط، كما في قوله تعالى في حق النسوة
{ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ } [البقرة: 282].
والثاني العدالة والصدق، كما في قوله تعالى:
{ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ } [الحجرات: 6] وهنا مبحث مشهور، وهو: هل الأصل في المسلمين العدالة حتى تظهر جرحه أم العكس؟
والصحيح الأول.
وقد كان العمل على ذلك إلى أن جاء رجل من العراق لعمر رضي الله عنه فقال له: أدرك الناس لقد تفشت شهادة الزور. فقال عمر: بتزكية الشهود وإثبات عدالتهم.
قد أورد ابن فرحون في مراتب الشهود إحدى عشرة مرتبة وهي:
الأولى: الشاهد المبرز في العدالة العالم بما تصح به الشهادة، فتجوز شهادته في كل شيء، وتجريحه ولا يسأل عن كيفية علمه بما شهد به من ذلك كله إذا أبهمه، ولا يقبل فيه التجريح إلا بالعداوة.
الثانية: المبرز في العدالة غير العالم بما تصح به الشهادة، فحكمه كالأول، إلا أنه يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك.
الثالثة: الشاهد المعروف بالعدالة العالم بما تصح به الشهادة، فتجوز شهادته إلا في ستة مواضع على اختلاف في بعضها، وهي التزكية، شهادته لأخيه ولمولاه ولصديقه الملاطف ولشريكه في غير التجارة، وإذا زاد في شهادته أو نقص فيها، ويقبل فيها التجريح بالعداوة وغيرها، ولا يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك.
الرابعة: المعروف بالعدالة غير العالم بما تصح به الشهادة، حكمه كذلك إلا أنه يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك.
الخامس: الشاهد المعروف بالعدالة إذا قذف قبل أن يحد فاختلف في قبول شهادته، وأجازها ابن القاسم، وهو مذهب مالك.
السادسة: الذي يتوسم فيه العدالة تجوز دون تزكية فيما يقع بين المسافرين في السفر من المعاملات، وفيما عدا ذلك لا بد من تزكيته، لأنه هو المعروف بمجهول الحال.
والصحيح أن مثله لا بد من التحري عنه حتى ينكشف أمره.
السابعة: الذي لا يتوسم فيه العدالة ولا الجرحة فلا تجوز شهادته في موضع من المواضع دون تزكية، إلا أن شهادته تكون شبيهة في بعض المواضع عند بعض العلماء، فتوجب اليمين وتوجب الحميل وتوقيف الشيء على المدعى عليه.
الثامنة: الذي يتوسم فيه الجرحة فلا تجوز شهادته دون تزكية، ولا تكون شهادته شبهة توجب حكماً.
التاسعة: الشاهد الذي ثبت عليه جرحة قديمة أو يعلمها الحاكم فيه، فلا تجوز شهادته دون تزكية ولا تقبل فيه التزكية على الإطلاق، وإنما تقبل ممن علم بجرحته إذا شهد على توبته منها، ونزوعه منها، والمحدود في القذف بمنزلته على مذهب مالك، لأن تزكيته لا تجوز على الإطلاق، وإنما تجوز بمعرفة تزيده في الخير.
العاشرة: المقيم على الجرحة المشهود بها، فلا تجوز شهادته ولا تقبل التزكية فيه، وإن زكى، وإنما تقبل تزكيته فيما يستقبل إذا تاب.
الحادية عشر: شاهد الزور، فلا تصح شهادته وإن تاب وحسنت حاله، وروى أبو زيد عن ابن القاسم: أن شهادته تجوز إذا تاب وعرفت توبته بتزيد حاله في الصلاح.
قال: ولا أعلمه إلا في قول مالك، فقيل: إن ذلك اختلاف من القول.
وقيل: معنى رواية أبي زيد إذا جاء تائباً مقراً على نفسه بشهادة الزور قبل أن تظهر عليه، وهو الأظهر والله سبحانه وتعالى اعلم اهـ.
وقد أوردنا هذه المراتب لأنها شملت أنواع الشهود قوة وضعفاً، وفيما تقبل شهاداتهم.
تنبيه
وقد قيل في تفريق الشهود: إن هذا في الزنا خاصة، وقيل: للقاضي أن يفرقهم متى ما رأى ذلك، وأن أول من فرقهم عليّ رضي الله عنه، وذكر الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه تفريق الشهود في قصة سليمان، وهو كلام في قضية المرأة التي رُميت بالزنا، واختلف في تحليف الشاهد.
فالجمهور: لا يحلف، ورجح ابن القيم جوازه فيما تقبل شهادته للضرورة كالمرأة الواحدة، والكافر في السفر، ومدار قبول الشهادة على الطمأنينة لصدق الشاهد، وذلك يدور على أصلين:
الأول: هو الضابط كما في قوله تعالى:
{ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ } [البقرة: 282].
والثانية: العدالة كما في قوله تعالى
{ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ } [الحجرات: 6] والعلم عند الله تعالى.
وللشهادة مباحث عديدة اكتفينا بما أوردنا.
وقد بحث ابن القيمرحمه الله مباحث الشهادة من حيث العدد والموضوع في كتاب الطرق الحكمية.
تنبيه
للشهادة علاقة باليمين في الحكم، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم "شاهدان أو يمينه".
فما هي تلك العلاقة، وبين هذه العلاقة قوله تعالى:
{ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ ٱللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [الأنعام: 19] وقوله { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [فصلت: 53]، وقوله: { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } [الأنبياء: 78]، وقوله: { هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَىٰ بِهِ شَهِيدَاً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [الأحقاف: 8] ونحو ذلك من الآيات، لأنه تعالى: شاهد ومطلع على أحوال العباد لا تخفى عليه خافية، يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، فإذا اعوز المدعي شاهداً حلف مع الشاهد كأنه قال: أستشهد بالله الذي يعلم مني صدق دعواي.
وكذلك المدعى عليه إذا عجز المدعي عن البينة كانت الدعوى متوجهة، ومما يشبه، كما يقول المالكية: فإن المدعى عليه يقول لدى البينة والشهادة على عدم ثبوت ما ادعى به على ألا، وهو خير الشاهدين.
من هو أكبر شهادة مما عجز عنها المدعي ألا وهو الاستشهاد بالله تعالى، فيحلف على براءة ذمته مما ادعى به عليه.
تنبيه
ومن هنا يعلم حقيقة قوله صلى الله عليه وسلم:
"من حلف بغير الله فقد أشرك" أي لأن الحالف يقيم المحلوف به مقام الشهود الذين رأوا أو سمعوا، والمحلوف إذا كان غائباً لا يرى ولا يسمع، فإذا حلف به كان قد أعطاه صفات من يرى ويسمع، والحال أنه بخلاف ذلك، ومن ناحية أخرى الحالف والمستحلف بالله يعلمان أن الله تعالى قادر على أن ينتقم من صاحب اليمين الغموس، وغير الله إذا ما حلف به لا يقوى ولا قدر على شيء من ذلك والعلم عند الله تعالى.