التفاسير

< >
عرض

وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً
١٤
-نوح

أضواء البيان في تفسير القرآن

هي المبينة في قوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 12-14].
وهذا مروي معناه عن ابن عباس. قاله ابن كثير والقرطبي.
وقيل أطواراً: شباباً وشيوخاً وضعفاء.
وقيل أطواراً: أي أنواعاً صحيحاً وسقيماً وبصيراً وضريراً وغنياً وفقيراً.
وقيل أطواراً: اختلافهم في الأخلاق والأفعال. قاله القرطبي.
ولكن كما قدم الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه. أنه إذا تعددت الأقوال في الآية وكان فيها قرينة دالة على أحد الأقوال لإنه يبينه، وهنا قرينة في الآية على أن المراد هو الأول وإن كان الجميع صحيحاً، والقرينة هي أن الآية في قضية الخلق وهو الإيجاد الأول، لأن ما بعد الإيجاد صفات عارضة.
وقد جاء نظير الآية في سورة المؤمنون كما قدمنا، وقد ذيلت بقوله تعالى:
{ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 14].
ومنها أن الآية سِيقت في الدلالة على قدرة الله على بعثهم بعد موتهم لمجازاتهم، فكان الأنسب بها أن يكون متعلقها كمال الخلقة والقدرة على الإيجاد.
والأنسب لهذا المعنى هو خلقهم من نطفة أمشاج وماء مهين، ثم تطويرها إلى علقة، ثم تطوير العلقة مضغة، ثم خلق المضغة عظاماً، ثم كسو العظام لحماً، ثم نشأته نشأة أخرى.
إنها قدرة باهرة وسلطة قاهرة.
ومثله في الواقعة:
{ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ } [الواقعة: 58-59].
وفي الطور في أصل الخلقة:
{ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ ٱلْخَالِقُونَ } [الطور: 35].
إن أصل الخلقة والإيجاد وهو أقوى دليل على القدرة، وهو الذي يجاب به على الكفرة، كما في قوله تعالى:
{ قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } [عبس: 17] ثم قال: { مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } [عبس: 17-19] ذلك كله دليل على أن المراد بالأطوار في الآية، هو ما جاء عن ابن عباس المشتملة عليه سورة المؤمنون.
تنبيه
إن بيان أطوار خلقة الإنسان على النحو المتقدم أقوى في انتزاع الاعتراف بقدرة الله من العبد، من يحيي المخلوق جملة، لأنه يوقف على عدة مراحل من حياته وإيجاده، وكل طور منها آية مستقلة، وهذا التوجيه موجود في الظواهر الكونية أيضاً من سماء وأرض، فالسماء كانت دخاناً وكانت رتقا ففتقهما، والأرض كانت على غير ما هي عليه الآن، وبين الجميع في قوله:
{ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَآ أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا } [النازعات: 27-32] وأجمع من ذلك كله في قوله تعالى في فصلت { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً } [فصلت: 9-12]، ثم ختم تعالى هذا التفصيل الكامل بقوله: { ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } [فصلت: 12]، ففيه بيان أن تلك الأطوار في المخلوقات بتقدير معين، وأنه بعلم، ومن العزيز سبحانه، فكان من الممكن خلقها دفعة واحدة، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
ولكن العرض على هذا التفصيل أبعد أثراً في نفس السامع وأشد تأثيراً عليه. والعلم عند الله تعالى.