التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً
١٥
وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً
١٦
وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً
١٧
ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً
١٨
-نوح

أضواء البيان في تفسير القرآن

في هذه الآية مع ما قبلها ثلاثة براهين من براهين البعث الأربعة التي كثر مجيئها في القرآن.
الأولى: خلق الإنسان
{ قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَّرَّةٍ } [يس: 79].
والثانية: خلق السماوات والأرض:
{ لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } [غافر: 57].
والثالثة: إحياء الأرض بعد موتها
{ فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } [الحج: 5]، { إِنَّ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ } [فصلت: 39].
والرابع: الذي لم تذكر هنا هو إحياء الموتى بالفعل، كقتيل بني إسرائيل،
{ فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ } [البقرة: 73].
وقد تقدم تفصيل ذلك في أكثر من موضع للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، وهنا سياق هذه البراهين للرد على المكذبين بالبعث، ولكن في هذا السياق إشكال فيما يبدو كبير وهو قوله تعالى:
{ أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً } [نوح: 15].
وإذا كان السياق للاستدلال بالمعلوم المشاهد على المجهول الغيبي، فإن خلق الإنسان أطواراً محسوس مشاهد ومسلم به، وإنبات الإنسان من الأرض بإطعامه من نباتها وإحيائها بعد موتها واهتزازها وإنباتها النبات أمر محسوس.
ويمكن أن يقال للمخاطب: كما شاهدت خلق الإنسان من عدم وتطوره أطواراً، وشاهدت إحياء الأرض الميتة، فإن الله الذي خلقك وأحيا لك الأرض الميتة قادر على أن يعيدك ويخرجك منها إخراجاً.
ولكن كيف تقول: وكما شاهدت خلق السماوات سبعاً طباقاً فإن القادر على ذلك قادر على بعثك. والحال أن الإنسان لم يشاهد خلق السموات سبعاً طباقاً، ولا رأى كيف خلقها الله سبعاً طباقاً، والإشكال هنا هو كيف قيل لهم: { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ }.
والكيف للحال والهيئة، وهم لم يشاهدوها كما قال تعالى:
{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } [الكهف: 51].
وكيف يستدلون بالمجهول عندهم على المغيب عنهم؟
وهنا تساءل ابن كثير تساؤلاً وارداً، وهو قوله: { طِبَاقاً } أي واحدة فوق واحدة، وهل هذا يتلقى من جهة السمع فقط؟ أو هو من الأمور المدركة بالحس، مما علم من التسيير والكسوفات. وأظنه يعني التسيير من السير، فإن الكواكب السبعة السيارة يكسف بعضها بعضاً، فأدناها القمر في السَّماء الدنيا وذكر الكواكب السبعة في السماوات السبع، وكلام أهل الهيئة ولم يتعرض للإشكال بحل يركن إليه.
وقال القرطبي: قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَوْاْ } كيف على جهة الاخبار لا المعاينة.
كما تقول: ألم تر كيف فعلت بفلان كذا؟
وعلى كلام القرطبي يرد السؤال الأول، إذا كان ذلك على جهة الإخبار، فكيف يجعل الخبر دليلاً على خبر آخل لا يدرك إلا بالسمع؟
والجواب عن ذلك مجملاً مما تشير إليه آيات القرآن الكريم كالآتي:
أولاً: أن تساؤل ابن كثير هل يتلقى ذلك من جهة السمع فقط؟ أو هو من الأمور المدركة بالحس، لا محل له لأنه لا طريق إلا النقل فقط، كما قال تعالى:
{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } [الكهف: 51] أي آدم. فلم نعلم كيف خلق ولا كيف سارت الروح في جسم جماد صلصال، فتحول إلى جسم حساس نام ناطق.
وأما قول القرطبي: إنه على جهة الإخبار لا المعاينة، فهو الذي يشهد له القرآن.
ويجيب القرآن على السؤال الوارد عليه، وذلك في قوله تعالى:
{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } [فصلت: 9-13].
لأن الله تعالى خاطب هنا الكفار قطعاً لقوله:
{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } [فصلت: 9].
وخاطبهم بأمور مفصلة لم يشهدوها قطعاً من خلق الأرض في يومين، ومن تقدير أقواتها في أربعة أيام ومن استوائه إلى السَّماء وهي دخان.
ومن قوله لها وللأرض:
{ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْها } [فصلت: 11].
ومن قولهما:
{ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [فصلت: 11].
ومن قضائهن سبع سماوات في يومين.
ومن وحيه في كل سماء أمرها.
كل ذلك تفصيل لأمور لم يشهدوها ولم يعلموا عنها بشيء، ومن ضمنها قضاؤه سبع سماوات، فكان كله على سبيل الإخبار لجماعة الكفار.
وعقبه بقوله:
{ ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } [فصلت: 12] فكان مقتضى هذا الإخبار وموجب هذا التقدير من العزيز العليم، أن يصدقوا أو أن يؤمنوا. وهذا من خصائص كل إخبار يكون مقطوعاً بصدقه من كل من هو واثق بقوله: يقول الخبر، وكان لقوة صدقه ملزم لسامعه، ولا يبالي قائله بقبول السامع له أو إعراضه عنه.
ولذا قال تعالى بعد ذلك مباشرة { فإِنْ أَعْرَضُواْ } أي بعد إعلامهم بذلك كله، فلا عليك منهم:
{ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } [فصلت: 13].
وحيث إن الله خاطبهم هنا { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ } فكان هذا أمر لفرط صدق الإخبار به، كالمشاهد المحسوس الملزم لهم؟
وقد جاءت السنة وبينت تلك الكيفية أنها سبع طباق بين كل سماء، والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، وشمل كل سماء وسمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام.
وقد يقال: إن الرؤية هنا في الكيفية حاصلة بالعين محسوسة، ولكن في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج حيث عرج به ورأى السبع الطباق، وكان يستأذن لكل سماء. ومشاهدة الواحد من الجنس كمشاهدة الجميع، فكأننا شاهدناها كلنا لإيماننا بصدقه صلى الله عليه وسلم، ولحقيقة معرفتهم إياه صلى الله عليه وسلم في الصدق من قبل. والعلم عند الله تعالى.