التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً
٢٦
إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً
٢٧
-نوح

أضواء البيان في تفسير القرآن

في هذه نص على أن نبي الله نوحاً طلب من الله إهلاك من على الأرض جميعاً، مع أن عادة الرسل الصبر على أممهم، وفيه إخبار نبي الله نوح عمن سيولد من بعد، وأنهم لم يلدوا إلا فاجراً كفاراً، فكيف دعا على قومه هذا الدعاء وكيف حكم على المواليد فيما بعد؟
والقرآن الكريم بين هذين الأمرين:
أما الأول: فإنه لم يدع عليهم هذا الدعاء إلا بعد أن تحدوه ويئس منهم، أما تحديهم ففي قولهم:
{ يٰنُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } [هود: 32].
وقوله:
{ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَٱزْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ } [القمر: 9-10].
وأما يأسه منهم فلقوله تعالى:
{ وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [هود: 36].
وأما إخباره عمن سيولد بأنه لن يولد لهم إلا فاجر كفار، فهو من مفهوم الآية المذكورة آنفاً، لأنه إذا لم يؤمن من قومه إلا من قد آمن، فسواء في الحاضر أو المستقبل.
وكذلك بدليل الاستقراء، وهو دليل معتبر شرعاً وعقلاً، وهو أنه مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وما آمن معه إلا قليل كانوا هم ومن معهم غيرهم حمل سفينة فقط، فكان دليلاً على قومه أنهم فتنوا بالمال ولم يؤمنوا له، وهو دليل نبي الله موسى عليه السلام أيضاً على قومه.
كما قال تعالى:
{ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } [يونس: 88].
فأُخبر نبي الله موسى عن قومه أنهم لن يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم، وذلك من استقراء حالهم في مصر لما أراهم الآية الكبرى
{ فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ فَحَشَرَ فَنَادَىٰ فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [النازعات: 21-24].
وبعد ان ابتلاهم الله بما قص علينا في قوله:
{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } [الأعراف: 133].
وقوله تعالى بعدها:
{ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ قَالُواْ يٰمُوسَىٰ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا ٱلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } [الأعراف: 134-135].
فمن كانت هذه حالته وموسى يعاين ذلك منهم، لا شك أنه يحكم عليهم أنهم لن يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.
وكذلك كان دليل الاستقراء لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه استدل به على عكس الأقوام الآخرين، حينما رجع من الطائف وفعلت معه ثقيف ما فعلت فأدموا قدميه، وجاءه جبريل ومعه ملك الجبال واستأذنه في أن يطبق عليهم الأخشبين، فقال:
"لا، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، إني لأرجوا أن يخرج الله من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله" وذلك أنه صلى الله عليه وسلم علم باستقراء حالهم أنهم لا يعلمون فهم يمتنعون عن الإيمان لقلة تعلمهم وأنهم في حاجة إلى التعليم.
فإذا علموا تعلّموا، وأن طبيعتهم قابلة للتعليم لا أنهم كغيرهم في إصرارهم، لأنه شاهد من كبارهم إذا عرض عليهم القرآن وخوطبوا بخطاب العقل ووعوا ما يخاطبون به وسلموا من العصبية والنوازع الأخرى فإنهم يستجيبون حالاً كما حدث لعمر وغيره رضي الله عنهم إلا من أعلمه الله بحاله مثل الوليد بن المغيرة
{ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } [المدثر: 11-14] - إلى قوله - { كَلاَّ إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } [المدثر: 16-17] - إلى قوله - { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } [المدثر: 26] فعلم صلى الله عليه وسلم حاله ومآله، ولذا فقد دعا عيله يوم بدر.
ومثله أبو لهب لما تبين حاله بقوله تعالى:
{ سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَٱمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ } [المسد: 3-4] فلكون العرب أهل فطرة، ولكون الإسلام دين الفطرة أيضاً كانت الاستجابة إليه أقرب.
انظر مدة مكثه صلى الله عليه وسلم من البعثة إلى انتقاله إلى الرفيق الأعلى ثلاثاً وعشرين سنة، كما عدد من أسلم فيها بينما نوح عليه السلام يمكث ألف سنة إلا خمسين عاماً فلم يؤمن معه إلا القليل.
ولذا كان قول نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام
{ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [نوح: 27]، كان بدليل الاستقراء من قومه، والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى:
{ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [نوح: 26]، لم يبين هنا هل استجيب له أم لا؟ وبينه في مواضع أخر منها قوله: { وَنُوحاً إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ } [الأنبياء: 76].
وفي هذه السورة نفسها وقبل هذه الآية مباشرة قوله تعالى:
{ مِّمَّا خَطِيۤئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَنصَاراً } [نوح: 25] فجمع الله لهم أقصى العقوبتين الإغراق والإحراق، مقابل أعظم الذنبين الضلال والإضلال.
وكذلك بين تعالى كيفية إهلاك قومه ونجاته هو وأهله ومن معه في قوله:
{ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ ٱلسَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى ٱلمَآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } [القمر: 10-14] الآية.
قال ابن كثير: لقد أغرق الله كل من على وجه الأرض من الكفار، حتى ولد نوح من صلبه. وهنا تنبيه على قضية ولد نوح في قوله:
{ يٰبْنَيَّ ٱرْكَبَ مَّعَنَا } [هود: 42] إلى قوله: { فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } [هود: 43] لما أخذت نوحاً العاطفة على ولده قال: { رَبِّ إِنَّ ٱبُنِي مِنْ أَهْلِي } [هود: 45] إلى قوله: { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } [هود: 46] أثار بعض الناس تساؤلاً حول ذلك في قراءة { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [هود: 46]، إنه عمل ماضي يعمل أي بكفره.
وتساءلوا حول صحة نسبه، والحق أن الله تعالى قد عصم نساء الأنبياء إكراماً لهم، وأنه ابنه حقاً، لأنه لما قال
{ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي } [هود: 45] تضمن هذا القول أمرين نسبته إليه في بنوته.
ثانياً: نسبته إليه في أهله، فكان الجواب عليه من الله بنفي النسبة الثانية لا الأولى، إنه ليس من أهلك. ولم يقل: إنه ليس ابنك، والأهل أعم من الابن، ومعلوم أن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، والعكس بالعكس، فلما نفى نسبته إلى أهله علمنا أن نسبته إليه بالبنوة باقية، ولو لم يكن ابنه لصلبه لكان النفي ينصب عليها.
ويقال: إنه ليس ابنك، وإذا نفى عنه البنوة انتفت عنه نسبته إلى أهله، وكذلك قوله تعالى بعدها:
{ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ } [هود: 37] أي لأن الظالمين ليسوا من الأهل بالنسبة للدين، لأن الدين يربط البعيدين، والظلم الذي هو بمعنى الكفر يفرق القريبين. والعلم عند الله تعالى.