التفاسير

< >
عرض

لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ
١
وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ
٢
-القيامة

أضواء البيان في تفسير القرآن

قال ابن جرير: اختلف القراء في قراءة قوله تعالى: { لآَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ }، فقرأت ذلك عامة قراء الأمصار، لا أقسم مفصولة من أقسم سوى الحسن والأعرج، فإنه ذكر عنهما أنهما كانا يقرآن ذلك: لأقسم بيوم القيامة. بمعنى أقسم بيوم القيامة.
ثم دخلت عليها لام القسم والقراءة التي لا أستجيز غيرها في هذا الموضع لا مفصولة، أقسم مبتدأة على ما عليه قراء الأمصار بإجماع الحجة من القراء عليه.
وقد اختلف الذين قرؤوا ذلك على وجه الذي اخترنا قراءته في تأويله، فقال بعضهم: لا صلة،إنما معنى الكلام: أقسم بيوم القيامة، وعزاه إلى سعيد بن جبير.
وقال آخرون: بل دخلت لا توكيداً للكلام.
وذكر عن أبي بكر بن عياش في قوله: لا أقسم. توكيد للقسم كقوله: لا والله.
وقال بعض نحويي الكوفة: لا، رد لكلام قد مضى من كلام المشركين الذين كانوا ينكرون الجنة والنار.
ثم ابتدئ القسم، فقيل: { أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } وكان يقول: كل يمين قبلها رد كلام، فلا بد من تقديم لا قبلها، ليفرق بذلك بين اليمين التي تكون جحداً واليمين التي تستأنف، ويقول: ألا ترى أنك تقول مبتدئاً: والله إن الرسول لحق، وإذا قلت: لا والله، إن الرسول لحق، فكأنك أكذبت قوماً أنكروه، واختلفوا أيضاً في ذلك هل هو قسم أم لا.
وذكر الخلاف في ذلك، والواقع أن هذه المسألة من المشكلات من حيث وجود اللام، وهل هي نافية للقسم أم مثبتة؟ وعلى أنها مثبتة فما موجبها؟ هل هي رد لكلام سابق أم تأكيد للقسم؟ وهل وقع إقسام أم لا؟ كما ذكر كل ذلك ابن جرير.
وقد تناولها الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في كتابه دفع إيهام الاضطراب في موضعين الاول في هذه السورة. واثاني في سورة البلد عند قوله تعالى:
{ لآَ أُقْسِمُ بِهَذَا ٱلْبَلَدِ } [البلد: 1]، فبين في الموضع الأول أنها أي لا: نافية لكلام قبلها فلا تتعارض مع الإقسام بيوم القيامة فعلاً الواقع في قوله تعالى: { وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ } [البروج: 2].
والثاني أنها صلة، وقال: سيأتي له زيادة إيضاح، والموضع الثاني:
{ لآَ أٌقْسِمُ بِهَذَا ٱلْبَلَدِ } [البلد: 1] ساق فيه بحثاً طويلاً مهماً جداً نسوق خلاصته.
وسيطبع الكتاب إن شاء الله مع هذه التتمة فليرجع إليه. خلاصة ما ساقه رحمة الله تعالى علينا وعليه:
قال: الجواب عليها من أوجه. الأول، وعليه الجمهور أن لا هنا صلة على عادة العرب، فإنها ربما لفظت بلفظة لا من غير قصد معناها الأصلي، بل لمجرد تقوية الكلام وتوكيده كقوله:
ما منعك إذا رأيتهم ضلوا ألا تتبعني. يعني أن تتبعني.
وقوله: لئلا يعلم أهل الكتاب.
وقوله: فلا وربك لا يؤمنون.
وقول امرئ القيس:

فلا وأبيك ابنة العامري لا يدع القوم أني أفر

يعني وأبيك، وأنشد الفراء لزيادة لا في الكلام الذي فيه معنى الجحد، قول الشاعر:

ما كان يرضى رسول الله دينهم والأطيبان أبو بكر ولا عمر

يعني وعمر، وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج:

في بئر لا حور سرى وما شعر بإفكه حتَّى رأى الصبح شجر

والحور: الهلكة: يعني في بئر هلكة، وأنشد غيره:

تذكرت ليلى فاعترَتني صبابة وكاد صميم القَلب لا يتقطع

والوجه الثاني: أن لا نفي لكلام المشركين المكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: أقسم: إثبات مستأنف.
وقيل: إن هذا الوجه، وإن قال به كثير من العلماء، إلا أنه ليس بوجيه عندي، لقوله تعالى في سورة القيامة { وَلآَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ }، لأن قوله { وَلآَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ } يدل على انه لم يرد الإثبات المستأنف بعد النفي بقوله أقسم والله تعالى أعلم.
الوجه الثالث: أنها حرف نفي أيضاً ووجهه أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به. فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية. والمراد أنه لا يعظم بالقسم، بل هو في نفسه عظيم أقسم به أولاً. وهذا القول ذكره صاحب الكشاف وصاحب روح المعاني، ولا يخلو عندي من نظر.
الوجه الرابع: أن اللام لام الابتداء، أشبعت فتحتها. والعرب ربما أشبعت الفتحة بألف والكسرة بياء والضمة بواو. ومثاله في الفتحة قول عبد يغوث الحارث:

وتَضحك مني شيخة عبشمية كأن لم ترى قَبلي يَسيرا يمانيا

فالأصل: كأن لم تر، ولكن الفتحة أشبعت.
وقول الراجز:

إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضاها ولا تملق

وقول عنترة في معلقته:

ينباع من ذفري غضوب جسرة زيافة مثل العتيق المكدم

فالأصل ينبع، يعني العرق ينبع من الذفري من ناقته، فأشبعت الفتحة فصارت ينباع، وقال: ليس هذا الإشباع من ضرورة الشعر.
ثم ساق الشواهد على الإشباع بالضمة والكسرة، ثم قال: يشهد لهذا لوجه قراءة قنبل: لأقسم بهذا البلد بلام الابتداء، وهو مروي عن البزي والحسن. والعلم عند الله تعالى اهـ. ملخصاً.
فأنت ترى أنه رحمة الله قدم فيها أربعة أوجه صلة، ونفي الكلام قبلها، وتأكيد للقسم، ولام ابتداء. واستدل له بقراءة قنبل أي لأقسم متصلة، أما كونها لام ابتداء لقراءة قنبل والحسن، فقد تقدم أن ابن جرير لا يستجيز هذه القراءة لإجماع الحجة من القراء على قراءتها مفصولة { لا } أقسم.
ولعل أرجح هذه الأوجه كلها أنها لتوكيد القسم، كما ذكر ابن جرير عن نحويي الكوفة والله تعالى أعلم.