التفاسير

< >
عرض

عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ
١
عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلْعَظِيمِ
٢
ٱلَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ
٣
كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
٤
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ
٥
-النبأ

أضواء البيان في تفسير القرآن

عم أصله عن ما أدغمت النون في الميم، ثم حذف ألف الميم، لدخول حرف الجر عليه للفرق بين ما الاستفهامية وما الموصولة.
والمعنى: عن أيّ شيء يتساءلون، وقد يفصل حرف الجر عن ما، فلا يحذف الألف.
وأنشد الزمخشري قول حسان رضي الله عنه:

على ما قام يشتمني لئيم كخنزير تمرغ فِي رماد

وقال في الكشاف: وعن ابن كثير أنه قرأ عمه، بهاء السكت، ثم وجهها بقوله: إما أن يجرى الوصل مجرى الوقف، وإما أن يقف ويبتدئ يتساءلون عن النبإ العظيم، على أن يضمر يتساءلون، لأن ما بعده يفسره.
وقال القرطبي: قوله: عن النبإ العظيم: ليس متعلقاً بيتساءلون المذكور في التلاوة، ولكن يقدر فعل آخر عم يتساءلون عن النبإ العظيم، وإلا لأعيد الاستفهام أعن النبإ العظيم؟
وعلى كل، فإن ما تساءلوا عنه أُبهم أولاً، ثم بين بعده بأنهم يتساءلون عن النبإ العظيم، ولكن بقي بيان هذا النبإ العظيم ما هو؟
فقيل: هو الرَّسول صلى الله عليه وسلم في بعثته لهم.
وقيل: في القرآن الذي أنزل عليه يدعوهم به.
وقيل في البعث بعد الموت.
وقد رجح ابن جرير: احتمال الجميع وألا تعارض بينها.
والواقع أنها كلها متلازمة، لأن من كذب بواحد منها كذب بها كلها، ومن صدق بواحد منها صدق بها كلها، ومن اختلف في واحد منها لا شك أن يختلف فيها كلها.
ولكن السياق في النبإ وهو مفرد. فما المراد به هنا بالذات؟
قال ابن كثير والقرطبي: من قال إنه القرآن: قال بدليل قوله:
{ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } [ص: 67-68].
ومن قال: إنه البعث قال بدليل الآتي بعدها:
{ إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً } [النبأ: 17].
والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن أظهرها دليلاً هو يوم القيامة والبعث، لأنه جاء بعده بدلائل وبراهين البعث كلها، وعقبها بالنص على يوم الفصل صراحة، أما براهين البعث فهي معلومة أربعة: خلق الأض والسماوات، وإحياء الأرض بالنبات، ونشأة الإنسان من العدم، وإحياء الموتى بالفعل في الدنيا لمعاينتها وكلها موجودة هنا.
أما خلق الأرض والسماوات، فنبه عليه بقوله:
{ أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَاداً وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً } [النبأ: 6-7]، وقوله: { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } [النبأ: 12-13] فكلها آيات كونية دالة على قدرته تعالى كما قال: { لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } [غافر: 57].
وأما إحياء الأرض بالنبات ففي قوله تعالى:
{ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً } [النبأ: 14-16] كما قال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى ٱلأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ } [فصلت: 39].
وأما نشأة الإنسان من العدم، ففي قوله تعالى:
{ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً } [النبأ: 8] أي أصنافاً، كما قال تعالى: { قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس: 79].
وأما إحياء الموتى في الدنيا بالفعل، ففي قوله تعالى:
{ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } [النبأ: 9] والسبات: الانقطاع عن الحركة. وقيل: هو الموت، فهو ميتة صغرى، وقد سماه الله وفاة في قوله تعالى: { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا وَٱلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا } [الزمر: 42]، وقوله تعالى: { وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِٱللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } [الأنعام: 60]، وهذا كقتيل بني إسرائيل وطيور إبراهيم، فهذه آيات البعث ذكرت كلها مجملة.
وقد تقدَّم للشَّيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه إيرادها مفصلة في أكثر من موضع، ولذا عقبها تعالى بقوله:
{ إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً } [النبأ: 17] أي للبعث الذي هم فيه مختلفون، يكون السياق مرجحاً للمراد بالنبأ هنا.
ويؤكد ذلك أيضاً، كثرة إنكارهم وشدة اختلافهم في البعث أكثر منهم في البعثة، وفي القرآن، فقد أقر أكثرهم ببلاغة القرآن، وأنه ليس سحراً ولا شعراً، كما أقروا جميعاً بصدقه عليه السلام وأمانته، ولكن شدة اختلافهم في البعث كما في أول سورة صۤ قۤ، ففي صۤ قال تعالى:
{ وَعَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ص: 4-5].
وفي قۤ قال تعالى:
{ بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } [قۤ: 2-3]، فهم أشد استبعاداً للبعث مما قبله، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ }.
لم يبين هنا هل علموا أم لا. ولكن ذكر آيات القدرة الباهرة على إحيائهم بعد الموت بمثابة إعلامهم بما اختلفوا فيه، لأنه بمنزلة من يقول لهم: إن كنتم مختلفين في إثبات البعث ونفيه، فهذه هي آياته ودلائله فاعتبروا بها وقايسوه عليها، والقادر على إيجاد تلك، قادر على إيجاد نظيرها.
ولكن العلم الحقيقي بالمعاينة لم يأت بعد لوجود السين وهي للمستقبل، وقد جاء في سورة التكاثر في قوله:
{ أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } [التكاثر: 1-7]، وهذا الذي سيعلمونه يوم الفصل المنصوص عليه في السياق، { إِنَّ يَوْمَ ٱلْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً } [النبأ: 17].