التفاسير

< >
عرض

وَٱلنَّازِعَاتِ غَرْقاً
١
-النازعات

أضواء البيان في تفسير القرآن

الواو للقسم، والمقسم به محذوف، ذكرت صفاته في كل المذكورات، إلى قوله: { فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } [النازعات: 5].
وقد اختلف في المقسم به فيها كلها، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
والنازعات: جمع نازعة، والنزع: جذب الشَّيء بقوة من مقره، كنزع القوس عن كبده، ويستعمل في المحسوس والمعنوي، فمن الأول نزع القوس كما قدمنا، ومنه قوله: ونزع يده، وقوله:
{ تَنزِعُ ٱلنَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [القمر: 20] وينزع عنهما لباسهما، ومن المعنوي قوله تعالى: { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [الحجر: 47]، وقوله: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } [النساء: 59]، والحديث: لعله نزعه عرق.
والإغراق المبالغة، والاستغراق: الاستيعاب.
أما المراد بالنازعات غرقاً هنا، فقد اختلف فيه إلى حوالى عشرة أقوال منها: أنها الملائكة تنزع الأرواح، والنجوم تنتقل من مكان إلى مكان آخر، والأقواس تنوع السهام، والغزاة ينزعون على الأقواس، والغزاة ينزعون من دار الإسلام إلى دار الحرب للقتال، والوحوش تنزع إلى الطلا، أي الحيوان الوحشي.
والنَّاشطات: قيل أصل الكلمة: النَّشاط والخفَّة، والأنشوطة: العقدة سهلة الحل، ونشطه بمعنى ربطه، وأنشطه حله بسرعة وخفة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
"كأنما أنشط من عقال" .
أما المراد به هنا فقد اختلف فيه على النحو المتقدم تقريباً، فقيل: الملائكة تنشط الأرواح، وقيل: أرواح المؤمنين تنشط عند الفزع، ولم يرجح انب جرير معنى منها، وقال: كلها محتملة، وحكاها غيره كلها.
وقد ذكر في الجلالين المعنى الأول منها فقط، والذي يشهد له السياق والنصوص الأخرى: أن كلاً من النازعات والناشطات: هم الملائكة، وهو ما روي عن ابن عباس ومجاهد، وهي صفات لها في قبض الأرواح.
ودلالة السياق على هذا المعنى: هو أنهما وصفان متقابلان: الأول نزع بشدَّة، والآخر نشاط بخفة، فيكون النزع غرقاً لأرواح الكفار، والنشط بخفة الأرواح المؤمنين، وقد جاء ذلك مفسراً في قوله تعالى في حق نزع أرواح الكفار
{ وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ } [الأنعام: 93] الآية. وقوله تعالى: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلاَۤئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } [الأنفال: 50]، وقوله تعالى في حق المؤمنين: { يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } [الفجر: 27-28]، وقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [فصلت: 30].
وهذا يتناسب كل المناسبة مع آخر السورة التي قبلها إذ جاء فيها:
{ إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ ٱلْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } [النبأ: 40]، ونظر المرء ما قدمت يداه يبدأ من حالة النزع حينما يثقل اللسان عن النطق في حالة الحشرجة، حين لا تقبل التوبة عند العاينة لما سيؤول إليه، فينظر حينئذٍ ما قدمت يداه، وهذا عند نزع الروح أو نشطها، والله تعالى أعلم.