التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ
١١
فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ
١٢
فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ
١٣
مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ
١٤
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ
١٥
كِرَامٍ بَرَرَةٍ
١٦
قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ
١٧
مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ
١٨
مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ
١٩
ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ
٢٠
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ
٢١
ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ
٢٢
-عبس

أضواء البيان في تفسير القرآن

معلوم أن كلمة: كلا: ردع عمَّا سبق، وهو في جملته منصب على التصدي لمن استغنى؟ الإلحاح عليهم والحرص على سماعهم منه، ولكن الله تعالى يقول: إن منزلة القرآن والوحي والدين أعلى منزلة من أن تبذل لقوم هذه حالتهم فهي على ما هي عليه من تكريم ورفعة وطهرة وصيانة، وما عليها من حفظة سفرة كرام بررة أحرى بأن يسعى إليها، والخير لمن أتاها يطلبها.
{ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ }، وهذا للتهديد لا للتخيير بدليل ما بعده { قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } [عبس: 17]، قتل الإنسان: دعاء عليه، والإنسان: للجنس الكافر، وما أكفره: أي ما أشد كفره بها، بعد هذا كله من علو منزلتها.
وقوله تعالى: { قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } قيل: ما أكفره هنا، ما أفعله أي ما أشد كفره.
وقال الزمخشري: هي تعجب من أفراطه في كفران نعم الله.
وقيل: أي شيء حمله على التكذيب والكفر؟ وكلها محتملة.
ولعلّ المعنى الأول أظهر لقوله قبله: قتل الإنسان، ولمجيء هذا المعنى في مواضع أخر: إن الإنسان لظلوم كفار، وكذلك فعول في قوله:
{ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ ٱلإِنْسَانَ لَكَفُورٌ } [الحج: 66]، وهكذا صفة الجاحدين لآيات الله، كما في قوله: { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ } [لقمان: 32].
ثم رد تعالى عليه ذلك برده إياه إلى أصل خلقته، ليتعظ من نفسه في قوله تعالى: { مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } [عبس: 18 - 21]، لأن هذه الثلاثة مسلم بها، ورتب عليها الرابعة { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } [عبس: 22].
وقوله: { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } تقدم مراراً بيان أصل خلق الإنسان وأطواره.
وقوله: { ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ } قيل: السبيل إلى خروجه من بطن أمه، حيث أدار رأسه إلى جهة الخروج، بدلاً مما كان عليه إلى أعلى، وهذا من التيسير في سبيل خروجه، وهذا مروي عن ابن عباس وغيره، وهو اختيار ابن جرير.
وقيل: السبيل: أي الدين في وضوحه، ويسر العمل به، كقوله تعالى:
{ إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [الإنسان: 3]، وهو مروي عن الحسن وابن زيد، ورجحه ابن كثير.
ولعل ما رجحه ابن كثير هو الأرجح، لأن تيسير الولادة أمر عام في كل حيوان، وهو مشاهد ملموس، فلا مزية للإنسان فيه على غيره، كما أن ما قبله دال عليه أو على مدلوله وهو القدرة في قوله تعالى:{ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } [عبس: 19].
وقد يكون تيسير الولادة داخلاً تحت قوله: فقدره. أي قدر تخلقه وزمن وجوده وزمن خروجه، وتقديرات جسمه وقدر حياته، وقدر مماته، كما هو معلوم.
أما تيسير سبيل الدين، فهو الخاص بالإنسان، وهو المطلوب التوجه إليه. وهو الذي يتعلق بغيره ما بين تخلقه من نطفة وتقديره. وبين إماتته وإقباره. أي فترة حياته في الدنيا، أي خلقه من نطفة وقدر مجيئه إلى الدنيا. ويسر له الدين في التكاليف. ثم أماته ليرى ماذا عمل { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } [عبس: 22].
ولذا جاء في النهاية بقوله: كلا لما يقض ما أمره. وليس هنا ما يدل على الأمر. إلاَّ السبيل يسره. والله تعالى أعلم.