التفاسير

< >
عرض

عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ
١
أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ
٢
-عبس

أضواء البيان في تفسير القرآن

سبب نزول هذه السورة باتفاق المفسرين، أنه صلى الله عليه وسلم كان مشغولاً بدعوة صناديد قريش، فأتاه ابن أم مكتوم، وهو رجل أعمى وقال: "أقرِئني يا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وعلّمني مما علَّمكَ الله" وكرر ذلك، فلم يتفق ذلك وما هو مشتغل به صلى الله عليه وسلم، وما يرجوه مما هو أعظم، فعبس وتولى عنه منصرفاً، لما هو مشتغل به.
قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب على قوله تعالى: { أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ } ما نصه: عبّر تعالى عن هذا الصَّحابي الجَليل الذي هو عبد الله بن أم مكتوم، بلقَب يكرهه الناس، مع أنه قال:
{ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ } [الحجرات: 11].
والجواب: هو ما نبه عليه بعض العلماء: من أن السر في التعبير عنه بلفظ الأعمى، للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه لو كان يرى ما هو مشتغل به مع صناديد الكفار لما قطع كلامه اهـ منه بلفظه.
وقال الفخر الرازي: إنه وإن كان أعمى لا يرى، فإنه يسمع وبسماعه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقدامه على مقاطعته يكون مرتكباً معصية، فكيف يعاتب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكلامه هذا يشعر بأنه إن كان معذوراً لعدم الرؤية، فليس معذوراً لإمكان سماعه، ولكن ذكره بوصفه ليوجب العطف عليه والرفق به.
والظاهر والله تعالى أعلم: أن كلام الرازي ليس بعيداً عمَّا ذكره الشيخ، لأن معناه أنه عاقبه لعدم رفقه به. ومراعاة حالة عماه.
فعليه، يكون ذكره بهذا الوصف من باب التعريض بغيره من أولئك الصناديد وسادة القوم، وكأنه يقول لهم:
{ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } [الحج: 46]، فهذا كفيف البصر، ولكن وقاد البصيرة أبصر الحق وآمن، وجاء مع عماه يسعى طلباً للمزيد، وأنتم تغلقت قلوبكم وعميت بصائركم فلم تدركوا الحقيقة ولم تبصروا نور الإيمان، كما في الآية الكريمة: { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ } والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
مما اتفق عليه المحدثون: جواز ذكر مثل هذه الأوصاف إذا كانت للتعريف لا للتنقيص، فقالوا: الأعمى والأعور والأعرج. وفي الحرف قالوا: الخراز، والخرقى، ونحوذ ذلك، وهذا ما فيه مصلحة لترجمة الرجال في السند.
ومثله: ليس تنابزاً بالألقاب في هذا الفن. والله تعالى أعلم.
ومثله: إذا كان للتعريف في غرض سليم دون تنقص كما قدمنا.
وقوله تعالى: { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ }، فإن فيه مثل ما في قوله تعالى: { أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ } لأن العبوسة أمر لا يتفق في الظاهر مع قوله تعالى في حقه صلى الله عليه وسلم،
{ وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم: 4] وقوله: { وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [الحجر: 88]. ولم أقف على جواب لذلك، ولم يتعرض له الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب.
والذي يظهر والله تعالى أعلم، أنه لا يتأتى معه، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بما يسيء إلى هذا الصحابي في نفسه بشيء يسمعه فيزعجه، كل ما كان منه صلى الله عليه وسلم إنما هو تقطيب الجبين، وهذه حركة مرئية لا مسموعة.
والحال: أن هذا أعملى لا يرى تلك الحركة، فكأنه لم يلق إساءة منه صلى الله عليه وسلم.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم مطمئن له لما هو عليه من خير في دينه. كما قال في حنين: وأكل أقواماً إلى ما في قلوبهم، أي لما أعطى المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار على ما هو معروف في القصة، فلم يعاتبه الله على ذلك, ورضي الأنصار وبكوا فرحاً ورضا.
ثم إن تقطيب الجبين وانبساط أسارير الوجه لحزن أو فرح، يكاد يكون جبلياً مما كان منه صلى الله عليه وسلم، فهو من باب الجبلية تقريباً، كأن المثير له غرض عام من خصوص الرسالة ومهمتها.
ومع ذلك فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان بعد نزولها يقول له:
"مرحباً فيمن عاتبني فيه ربي" ، ويكرمه، وقد استخلفه على المدينة مرتين.
وعلى هذا يكون المراد بهذا أمران:
الأول: التسامي بأخلاقه صلى الله عليه وسلم إلى ما لا نهاية له، إلى حد اللحظ بالعين، والتقطيب بالجبين، ولو لمن لا يراه، كما قال صلى الله عيله وسلم:
"ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين" وذلك في صلح الحديبية.
والثاني: تأديب للأمة وللدعاة خاصة، في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما علمهم في شخصيته في بر الوالدين، في قوله تعالى:
{ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } [الإسراء: 23].
وهذا السياق بكامله من أول السورة إلى قوله تعالى:
{ كَلآَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } [عبس: 11-12]، بيان لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يراعي في الدعوة إلى الله غنياً ولا فقيراً، وأن يصبر على ضعفه المؤمنين. لأن الرسالة تبليغ وليس عليه ما وراء ذلك من مسؤولية، فلا يتكلف لهم.
وقد حثه الله تعالى على الصبر مع المؤمنين، لإيمانهم في قوله تعالى:
{ وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [الكهف: 28-29].
ومثله قوله تعالى:
{ وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [الأنعام: 52].
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، شيء من هذا البيان عند هذه الآية، وبين أن هذا التنبيه قد وقع من نبي الله نوح إلى قومه، حينما ازدروا ضعفة المؤمنين في قوله تعالى:
{ فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ ٱتَّبَعَكَ إِلاَّ ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأْيِ } [هود: 27] - إلى قوله: { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } [هود: 29].
وقد دلت هذه الآية وأمثالها، على صدق مقالة هرقل حينما سأل أبا سفيان، عن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم: أهم سادة القوم أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم. فقال: هكذا هم أتباع الرسل.
وقال العلماء في ذلك: لأنهم أقرب إلى الفطرة، وأبعد عن السلطان والجاه، فليس لديهم حرص على منصب يضيع، ولا جاه يهدر، ويجدون في الدين عزاً ورفعة، وهكذا كان بلال وصهيب وعمار، وهكذا هو ابن أم مكتوم رضي الله عنهم.