التفاسير

< >
عرض

وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ
١
ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ
٢
وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ
٣
-المطففين

أضواء البيان في تفسير القرآن

التطفيف: التنقيص من الطفيف، وهو الشيء القليل.
وقد فسره ما بعده في قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [المطففين: 2-3].
قالوا: نزلت في رجل كان له مكيالان كبير وصغير، إذا اكتال لنفسه على غيره، اكتال بالمكيال الكبير، وإذا كال من عنده لغيره، اكتال بالمكيل الصغير، ففي كلتا الحالتين تطفيف، أي تنقيص على الناس من حقوقهم.
والتقديم في افتتاحية هذه السورة بالويل للمطففين، يشعر بشدة خطر هذا العمل، وهو فعلاً خطيراً، لأنه مقياس اقتصاد العالم وميزان التعامل، فإذا اختل أحدث خللاً في اقتصاده، وبالتالي اختلال في التعامل، وهو فساد كبير.
وأكبر من هذا كله، وجود الربا إذا بيع جنس بجنسه، وحصل تفاوت في الكيل أو الوزن.
وفيه كما قال تعالى:
{ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } [البقرة: 279].
ولذا فقد ورد ذكر الكيل والوزن، والحث على العناية بهما في عدة مواطن، بعدة أساليب منها الخاص ومنها العام.
فقد ورد في الأنعام والأعراف وهود وبني إسرائيل والرحمن والحديد، أي في ست سور من القرآن الكريم.
أولاً في سورة الأنعام، في سياق ما يعرف بالوصايا العشر،
{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } [الأنعام: 151]. وذكر برّ الوالدين والنهي عن قتل الأولاد والقرب من الفواحش، وقتل النفس التي حرم الله، والنهي عن مال اليتيم.
ثم قال:
{ وَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ ٱللَّهِ أَوْفُواْ } [الأنعام: 152].
وتكلم الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عندها كلاماً موجزاً مفيداً، بأن الأمر هنا بقدر الوسع، ومن أخل من غير قصد التعدي، لا حرج عليه.
وقال: ولم يذكر هنا عقوبة لمن تعمد ذلك، ولكنه توعده بالويل في موضع آخر، وساق أول هذه السورة: { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ }.
كما بين عاقبة الوفاء بالكيل بقوله:
{ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [النساء: 59] أي مآلا.
وهنا يلفت كلامهرحمه الله النظر إلى نقطة هامة. وهي في قوله تعالى:
{ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [الأنعام: 152]، حيث إن التطفيف الزيادة الطفيفة، والشيء الطفيف القليل.
فكأن الآية هنا تقول: تحروا بقدر المستطاع من التطفيف ولو يسيراً.
وبعد بذل الجهد لا نكلف نفساً إلاَّ وسعها، وهذا غاية في التحري مع شدة التحذير والتوعد بالويل، وإذا كان الوعيد بالويل على الشيء الطفيف، فما فوقه من باب أولى.
الموضع الثاني في سورة الأعراف من قوله تعالى:
{ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [الأعراف: 85].
فاقترن الأمر بالوفاء بالكيل، بالأمر بعبادة الله وحده، لأن في الأمرين إعطاء كل ذي حق حقه، من غير ما نقص.
وبين أن في عدم الإيفاء المطلوب بخس الناس أشياءهم، وفساد في الأرض بعد إصلاحها.
الموضع الثالث في سورة هود، ومع شعيب أيضاً:
{ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّةُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } [هود: 84-86].
وبنفس الأسلوب أيضاً كما تقدم، ربطه بعبادة الله تعالى وحده، وتكرار الأمر بعد النهي، ولا تنقصوا المكيال والميزان، ثم أوفوا الكيل والميزان بالقسط نهي عن نقصه، وأمر بإِيفائه نص على المفهوم بالتأكيد. ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين، مع التوجيه بأن ما عند الله خير لهم.
الموضع الرابع في سورة بني إسرائيل
{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [الإسراء: 29]، أي اعتدال في الإنفاق مع نفسه، فضلاً عن غيره، ثم إن الله يبسط الرزق لمن يشاء، ثم { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } [الإسراء: 31]، وكلها في مجال الاقتصاد وبعدها { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ } [الإسراء: 32-33].
وقد يكون الباعث عليهما أيضاً غرض مالي
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [الإسراء: 34]، وهو من أخص أبواب المال.
ثم الوفاء بالعهد ثم
{ وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِٱلقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [الإسراء: 35]، فمع ضروريات الحياة حفظ النفس والعرض والمال يأتي الحفاظ على الكيل والوزن.
الموضع الخامس في سورة الشورى وهو أعم مما تقدم، وجعله مقرونا بإنزال الكتاب في قوله تعالى:
{ ٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَٱلْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ } [الشورى: 17].
وتكلم الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند هذه الآية، بما أشرنا إلى أنه عام، فقال: الميزان هنا مراد به العدل والإنصاف، وأن هذا المعنى متضمن آلة الوزن وزيادة.
وأورد بقية الآيات هنا في مبحث مفصل، فذكر آية الرحمن وآية الحديد، وتكلم على الجميع بالتفصيل.
وفي قوله تعالى في سورة الرحمن:
{ وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلْمِيزَانَ } [الرحمن: 7]، مقابلة عظيمة بين رفع السماء الذي هو حق وعدل وقدرة، والميزان وضعه في الأرض، لتقوموا بالعدل والإنصاف، وبهذا العدل قامت السماوات والأرض.
وفي سورة الحديد اقتران الميزان بإرسال الرسل وإنزال الكتب
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } [الحديد: 25].
ومعلوم أن الميزان الذي أنزل مع الكتاب هو ميزان الحق والعدل، والنهي عن أكل أموال الناس بغير حق، وعدم بخس الناس أشياءهم.
فكانت هذه الآية أعم وأشمل آيات الوفاء في الكيل والوزن. بمثابة قوله تعالى:
{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ } [النساء: 58].
وقد جمع لفظ الأمانة ليعم به كل ما يمكن أن يؤتمن الإنسان عليه.
وكذلك هنا الميزان مع الكتاب المنزل، وبه يستوفي كل إنسان حقه في أي نوع من أنواع التعامل، فكل من غش في سلعة أو دلَّس أو زاد في عدد، أو نقص أو زاد في ذرع، أو نقص فهو مطفف للكيل، داخل تحت الوعيد بالويل.
فمن باع ذهباً مثلاً على أنه صافٍ من الغش وزن درهم، وفيه من النحاس عشر الدرهم، فقد نقص وطفف لنفسه فأخذ حق درهم كامل. ذهباً، ونقص حيث أعطى درهماً إلا عشر.
ومن باع رطلاً سمناً وفيه عشر الرطل شحماً، فقد طفف بمقدار هذا العشر لنفسه، ونقص وبخس المشتري بمقدار ذلك:
وهكذا من باع ثوباً عشر أمتار وهو ينقص ربع المتر فقد طفف وبخس بمقدار هذا الربع.
وهكذا في القسمة بين الناس وبين الأولاد، وبين الأهل وكل ما فيه عطاء، وأخذ بين اثنين، الله تعالى أعلم.
ومن باب ما يذكره العلماء في مناسبات السورة بعضها من بعض.
فقد قال أبو حيان لما ذكر السورة التي قبلها مصير الأبرار والفجار يوم القيامة، ذكر هنا من موجبات ذلك وأهمها تطفيف الكيل، وبخس الوزن، وهذا في الجملة متوجه، ولكن صريح قوله تعالى في السورة السابقة
{ وَإِذَا ٱلْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } [الانفطار: 4-5]، فهو وإن كان عاماً في كل ما قدمه لنفسه من عمل الخير، وما أخر من أداء الواجبات عليه، فإنه يتضمن أيضاً خصوص ما قدم من وفاء في الكيل ورجحان في الوزن، وما أخر في تطفيف في الكيل وبخس طمعاً في المال وجمعاً للتراث، كما قال تعالى: { وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً كَلآَّ إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ يَقُولُ يَٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [الفجر: 19-24].
ومن هنا يعلم للعاقل أن ما طفف من كيل أو بخس من وزن، مهما جمع منه، فإنه يؤخره وراءه ومسؤول عنه، ونادم عليه، وقائل: يا ليتني قدمت لحياتي، ولات ساعة مندم.