التفاسير

< >
عرض

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ
٧
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً
٨
وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً
٩
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ
١٠
فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً
١١
وَيَصْلَىٰ سَعِيراً
١٢
إِنَّهُ كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً
١٣
إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ
١٤
-الانشقاق

أضواء البيان في تفسير القرآن

في هذا التفصيل بيان لمصير الإنسان نتيجة كدحه، وما سجل عليه في كتاب أعماله، وذلك بعد أن تقدم في الانفطار قوله: { { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [الانفطار: 10-14].
وجاء في المطففين
{ { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } } [المطففين: 7] ثم بعده { { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } [المطففين: 18].
جاء هنا بيان إتيانه هذه الكتب مما يشير إلى ارتباط هذه السور بعضها ببعض، في بيان مآل العلم كله ومصير الإنسان نتيجة عمله.
وتقدم للشيخ مباحث إتيان الكتب باليمين وبالشمال ومن وراء الظهر، عند كل من قوله تعالى:
{ { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [الإسراء: 71] في سورة الإسراء - إلى قوله تعالى - { { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } [الإسراء: 71]، وبين أحوال الفريقين أهل اليمين وأهل الشمال، وأحال على أول السورة.
وقوله:
{ { وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } [الكهف: 49]، في سورة الكهف وهنا ذكر سبحانه وتعالى حالة من حالات كلا الفريقين.
فالأولى: يحاسب حساباً يسيراً وهو العرض فقط دون مناقشة، كما في حديث عائشة رضي الله عنها
"من نوقش الحساب عذّب"
والثانية: يدعو على نفسه بالثبور وهو الهلاك، ومنه: المواطأة على الشيء سميت مثابرة، لأنه كأنه يريد أن يهلك نفسه في طلبه.
وهنا مقابلة عجيبة بالغة الأهمية، وذلك بين سرورين أحدهما آجل والآخر عاجل.
فالأول في حق من أوتي كتابه بيمينه، أنه ينقلب إلى أهله مسروراً ينادي فرحاً
{ { هَآؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ } [الحاقة: 19]، وأهله آنذاك في الجنة من الحور والولدان، ومن أقاربه الذين دخلوا الجنة، كما في قوله تعالى: { { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } [الرعد: 23].
وقوله:
{ { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [الطور: 21]، فهم وإن كانوا ملحقين بهم إلا أنهم من أهلهم، وهذا من تمام النعمة أن يعلم بها من يعرفه من أهله، وهذا مما يزيد سرور العبد، وهو السرور الدائم.
والآخر سرور عاجل، وهو لمن أعطوا كتبهم بشمالهم، لأنهم كانوا في أملهم مسرورين في الدنيا، وشتان بين سرور وسرور.
وقد بين هنا نتيجة سرور أولئك في الدنيا، بأنهم يصلون سعيراً، ولم يبين سبب سرور الآخرين، ولكن ينبه في موضع آخر وهو خوفهم من الله في قوله تعالى:
{ { قَالُوۤاْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِيۤ أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ ٱلسَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ } [الطور: 26-28].
وهنا يقال: إن الله سبحانه لم يجمع على عبده خوفان، ولم يعطه الأمنان معاًً، فمن خافه في الدنيا أمنه في الآخرة
{ { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن: 46].
{ { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } [النازعات: 40-41].
ومن أمن مكر الله وقضى كل شهواته وكان لا يبالي فيؤتى كتابه بشماله ويصلى سعيراً، كما في قوله تعالى:
{ { وَأَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى ٱلْحِنثِ ٱلْعَظِيمِ * وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [الواقعة: 41-47]، تكذيباً للبعث. وقوله هذا هو بعينه المذكور في الآيات { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ }. وقوله: { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُور }، هذا الظن مثل ما تقدم في حق المطففين { { أَلا يَظُنُّ أُوْلَـٰئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ } [المطففين: 4-5]، مما يشعر أن عدم الإيمان بالبعث أو الشك فيه، هو الدافع لكل سوء والمضيع لكل خير، وأن الإيمان باليوم الآخر هو المنطلق لكل خير والمانع لكل شر، والإيمان بالبعث هو منطلق جميع الأعمال الصالحة كما في مستهل المصحف { { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2] الآيات.