التفاسير

< >
عرض

وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ
٣
-البروج

أضواء البيان في تفسير القرآن

لم يصرح هنا من الشاهد وما المشهود، وقد ذكر الشاهد فى القرآن بمعنى الحاضر، كقوله تعالى: { { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [البقرة: 185]، وقوله: { { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } [الأنعام: 73].
وذكر المشهود بمعنى الشاهد باسم المفعول، كقوله تعالى:
{ { ذٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } [هود: 103].
فالشاهد والمشهود قد يكونان من المشاهدة، وذكر الشاهد من الشهادة، والمشهود من المشهود به أو عليه، كما فى قوله تعالى:
{ { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً } [النساء: 41].
فشهيد الأولى: أي شهيد على الأمة التي بعثت فيها، وشهيد الثانية: أي شاهد على الرسل في أممهم.
ومن هنا اختلفت أقوال المفسرين إلى ما يقرب من عشرين قولاً.
قال ابن جرير: ما ملخصه: يوم الجمعة، والمشهود يوم عرف أو النحر، وعزاه لعلي وأبي هريرة، والشاهد محمد صلى الله عليه وسلم.، والمشهود يوم القيامة. وعزاه لابن عباس والحسن بن علي هو يوم القيامة، وعزاه لابن عباس. ثم قال: والصواب عندي أنه صالح لكل ما يقال له مشاهد، ويقال له مشهود فلم يفصل ما إذا كان بمعنى الحضور، أو الشهادة، ومثله القرطبي وابن كثير.
وقد فصل أبو حيان على ما قدمنا، فقال: إن كان بمعنى الحضور، فالشاهد الإنسان والمشهود يوم القيامة، ولما ذكر اليوم الموعود ناسب أن يذكر كل من يشهد فى ذلك اليوم، ومن يشهد عليه، وذكرنا نحواً من عشرين قولاً. وقال: كل له متمسك، والذي يظهر والله تعالى أعلم: أنه من باب الشهادة لأن ذكر اليوم الموعود وهو يكفي عن اليوم المشهود، بل إنه يحتاج إلى من يشهد فيه وتقام الشهادة على ما سيعرض فيه لإقامة الحجة على الخلق لا لإثبات الحق.
وقد جاء في القرآن تعداد الشهود في ذلك اليوم، مما يتناسب مع العرض والحساب.
ومجمل ذلك أنها تكون خاصة وعامة وأعم من العامة، فمن الخاصة شهادة الجوارح على الإنسان كما في قوله تعالى:
{ { حَتَّىٰ إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [فصلت: 20] وقوله: { { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [يس: 65]، وهذه شهادة فعل ومقال لا شهادة حال، كما بينها قوله تعالى عنهم: { { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [فصلت: 21-22]، ورد الله زعمهم ذلك بقوله: { { وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَاسِرِينَ } [فصلت: 23].
وتقدم للشيخ بيان شهادة الأعضاء في سورة يس وفي سورة النساء عند قوله تعالى:
{ { وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً } [النساء: 42]، وشهادة الملائكة وهم الحفظة كما في قوله تعالى: { { وَقَالَ قَرِينُهُ هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } [ق: 23]، وقوله: { { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ق: 21]، ثم شهادة الرسل كل رسول على أمته، كما في قوله عن عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، { { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } [المائدة: 117]، فهذا وإن كان في الحياة فسيؤديها يوم القيامة.
وكقوله في عموم الأمم
{ { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } [النحل: 89].
ومنها: شهادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على جميع الرسل كما في قوله تعالى:
{ { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ شَهِيداً } [النساء: 41].
ومنها: شهادة هذه الأمة على سائر الأمم، كما في قوله تعالى:
{ { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ } [البقرة: 143].
ومنها شهادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على هذه الأمة لقوله تعالى:
{ { وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [البقرة: 143].
ومنها: شهادة الله تعالى على الجميع.
وهذا ما يتناسب مع ذكر اليوم الموعود وما يكون فيه من الجزاء والحساب على الأعمال ومجازاة الخلائق عليها: وسيأتي في نفس السياق قوله:
{ { وَٱللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [البروج: 9]، وهو كما ترى لا يتقيد بشاهد واحد، وأيضا لا يعارض بعضها بعضا.
فاختلاف الشهود وتعددهم باختلاف المشهود عليه، وتعدده من فرد إلى أمة إلى رسل، إلى غير ذلك. وكلها داخلة في المعنى وواقعة بالفعل.
وقد ذكرت أقوال أخرى، ولكن لا تختص بوم القيامة.
ومنها: أن الشاهد الله والملائكة وأولوا العلم، والمشهود به وحدانية الله تعالى.
ومنها: الشاهد المخلوقات، والمشهود به قدرة الله تعالى، فتكون الشهادة بمعنى العلامة.
وأكثر المفسرين إيراداً في ذلك الفخر الرازي حيث ساقها كلها بأدلتها إلا ما ذكرناه من السنة فلم يورده.
وقد جاء في السنة تعيين الشهادات لغير ما ذكر.
منها الشهادة للمؤذن: ما يسمع صوته شجر ولا حجر ولا مدر، إلا شهد له يوم القيامة.
ومنها: شهادة الأرض على الإنسان بما عليها المشار إليه في قوله تعالى:
{ { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } [الزلزلة: 4].
ومنها: شهادة المال على صاحبه فيم أنفقه.
ومنها: شهادة الصيام والقرآن وشفاعتهما لصاحبهما. ونحو ذلك والله تعالى أعلم.
تنبيه
في هذا العرض إشعار يتعلق بالقضاء وكمال العدالة، وهو إذا كان رب العزة سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء شهيد، وبكل شيء عليم، وموكل حفظه يكتبون أعمال العباد، ومع ذلك لم يقض بين الخلائق بما يعلمه منهم ولا بما سجلته ملائكته ويستنطق أعضاءهم، ويستشهد الرسل على الأمم والرسول - صلى الله عليه وسلم - على الرسل، أي بأنهم بلغوا أممهم رسالات الله إليهم، فلأن لا يقضي القاضي بعلمه من باب أولى. والعلم عند الله تعالى.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله:
"إنكم تَحتكمون إليَّ وإنما أنا بشر أقضي لَكم على نحو ما أسمع، فمن اقتطعت له شَيئاً من حق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من نَار" الحديث. أي كان من الممكن أن ينزل عليه الوحي، ولا سيما في تلك القضية بعينها، إذ قالوا في مواريث درست معالمها ولا بينة بينهما، ولكن إذا نزل الوحي عليه صلى الله عليه وسلم فيها، فمن بالوحي لمن يأتي بعده في القضاء؟
ولذا قال صلى الله عليه وسلم
"البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" .
ومعلوم أن البينة فعيلة من البيان، فتشمل كل ما يبين الحق من شهادة وقرينة كما في قصة يوسف من القرائن مع إخوته ومع امرأة العزيز. إلخ.