التفاسير

< >
عرض

بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا
١٦
وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ
١٧
إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ
١٨
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ
١٩
-الأعلى

أضواء البيان في تفسير القرآن

قرئ: تؤثرون بالتاء وبالياء راجعاً إلى { ٱلأَشْقَى * ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ } [الأعلى: 11-12]، وعلى أنها بالتاء للخطاب أعم، وحيث إن هذا الأمر عام في الأمم الماضية، ويذكر في الصحف الأولى كلها عامة، وفي صحف إبراهيم وموسى، مما يدل على خطورته، وأنه أمر غالب على الناس.
وقد جاءت آيات دالة على أسباب ذلك منها الجهل وعدم العلم بالحقائق، كما في قوله تعالى:
{ { وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [العنكبوت: 64]، أي الحياة الدائمة.
وقد روى القرطبي عن مالك بن دينار قوله: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من خزف يبقى، لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى، فكيف والآخرة من ذهب يبقى والدنيا من خزف يفنى؟
ومن أسباب ذلك أن الدنيا زينت للناس وعجلت لهم كما في قوله:
{ { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ } [آل عمران: 14].
ثم قال:
{ { ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } [آل عمران: 14].
وبين تعالى هذا المآب الحسن وهو في وصفه يقابل { وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ }، فقال:
{ { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } [آل عمران: 15].
تأمل هذا البديل، ففي الدنيا ذهب وخيل ونساء والأنعام والحرث، وقد قابل ذلك كله بالجنة فعمت وشملت، ولكن نص على أزواج مطهرة ليعرف الفرق بين نساء الدنيا ونساء الآخرة، كما تقدم في
{ { أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } [محمد: 15]، { { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ } [الواقعة: 19]، وغير ذلك مما ينص على الخيرية في الآخرة.
ولا شك أن من آثر الآخرة غالب على من آثر الدنيا، وظاهر عليه، كما صرَّح تعالى بذلك في قوله:
{ { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [البقرة: 212].
فمن هذا يظهر أن أسباب إيثار الناس للحياة الدنيا هو تزيينها وزخرفتها في أعينهم بالمال والبنين والخيل والأنعام
{ { ٱلْمَالُ وَٱلْبَنُونَ زِينَةُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } [الكهف: 46].
وقد سيق هذا، لا على سبيل الإخبار بالواقع فحسب، بل إن من ورائه ما يسمى لازم الفائدة، وهو ذم من كان هذا حاله، فوجب البحث عن العلاج لهذه الحالة.
وإذا ذهبنا نتطلب العلاج فإننا في الواقع نواجه أخطر موضوع على الإنسان، لأنه يشمل حياته الدنيا ومآله في الآخرة، ويتحكم في سعادته وفوزه أو شقاوته وحرمانه، وإن قرب مأخذ لنا لهو هذا الموطن بالذات من هذه السورة، وهو بضميمة ما قبلها إليها من قوله تعالى:
{ { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ * وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلأَشْقَى * ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ } [الأعلى: 10-12]، وبعدها { { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ * وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ } [الأعلى: 14-15]، فقد قسمت هذه الآيات الأمة كلها أمة الدعوة إلى قسمين.
أما التذكير والإنذار، إذ قال تعالى:
{ { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ } [الأعلى: 9] فهذا موقف النَّبي صلى الله عليه وسلم، وجاء تقسيم الأمة إلى القسمين الآيتين: { { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ } [الأعلى: 10] فينتفع بالذكرى وتنفعه، { { وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلأَشْقَى } [الأعلى: 11] فلا تنفعه ولا ينتفع بها، ثم جاء الحكم بالفلاح: { { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ } [الأعلى: 14] أي من يخشى { { وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ } [الأعلى: 15] ولم يغفل عن ذكر الله تعالى، وهذا الموقف بنفسه هو المفصل في سورة الحديد، وفي معرض التوجيه لنا والتوبيخ للأمم الماضية أيضاً { { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ٱلأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد: 16].
فقسوة القلب وطول الأمد والتسويف: هي العوامل الأساسية للغفلة وإيثار الدنيا. والخشية والذكر: هي العوامل الأساسية لإيثار الآخرة ثم عرض الدنيا في حقيقتها بقوله:
{ { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ } [الحديد: 20] - إلى قوله - { { وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } [الحديد: 21].
فوصف الداء والدواء معاً في هذا السياق. فالداء: هو الغرور، والدواء: هو المسابقة إلى مغفرة من الله ورضوانه.
وقوله: { إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ }، قيل: اسم الإشارة راجع إلى السورة، كلها لتضمنها معنى التوحيد والمعاد والذكر والعبادات، والصحف الأولى: هي صحف إبراهيم وموسى، على أنها بدل من الأولى.
وجاء عند القرطبي: أن صحف إبراهيم كانت أمثالاً، وصحف موسى كانت مواعظ، وذكر نماذج لها.
وعند الفخر الرازي من رواية
"أبي ذر رضي الله عنه، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كم أنزل الله من كتاب؟ فقال: مائة وأربعة كتب على آدم عشر صحف، وعلى شئث خمسين صحيفة: وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان" .
وفي هذا نص على أن في القرآن مما في الصحف الأولى، وقد جاء ما يدل أن معان أخرى كذلك في صحف إبراهيم وموسى كما في سورة النجم في قوله: { { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ * وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ } [النجم: 36-40].
وهذا يؤيد أنها أكثرها أمثالاً ومواعظ، كما يؤكد ترابط الكتب السماوية.