التفاسير

< >
عرض

وَٱلْفَجْرِ
١
وَلَيالٍ عَشْرٍ
٢
وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ
٣
وَٱلَّيلِ إِذَا يَسْرِ
٤
هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ
٥
-الفجر

أضواء البيان في تفسير القرآن

اختلف في المراد بالفجر، فقيل: انفجار النهار من ظلمة الليل.
وقيل: صلاة الفجر.
وكلا القولين له شاهد من القرآن. أما انفجار النهار، فكما في قوله تعالى:
{ { وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } } [التكوير].
وأما صلاة الفجر فكما في قوله:
{ { وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } [الإسراء: 78]، ولكن في السياق ما يقرب القول الأول، إذ هو في الأيام والليالي الفجر وليال عشر، الليل إذا يسري، وكلها آيات زمنية أنسب لها انفجار النهار.
بقي في ذلك اختلافهم في أي الفجر عنى هنا، فقيل بالعموم في كل يوم، وقيل: بالخصوص. والأول قول ابن عباس وابن الزبير وعلي رضي الله عنهم.
وعلى الثاني فقيل: خصوص الفجر يوم النحر. وقيل: أول يوم المحرم، وليس هناك يعول عليه. إلا أن فجر يوم النحر أقرب إلى الليالي العشر، إن قلنا: هي عشر ذي الحجة على ما يأتي إن شاء الله.
أما الليالي العشر فأقوال المفسرين محصورة في عشر ذي الحجة، وعشر المحرم والعشر الأواخر من رمضان. والأول جاء عن مسروق أنها العشر التي ذكرها الله في قصة موسى عليه السلام وأتممناها بعشر، وكلها الأقوال الثلاثة مروية عن ابن عباس. وليس في القرآن نص بعينها.
وفي السنة بيان فضيلة عشر ذي الحجة وعشر رمضان كما هو معلوم، فإن جعل الفجر خاصاً بيوم النحر، كان ذي الحجة أقرب للسياق. والله تعالى أعلم.
والشفع والوتر: ذكر المفسرون أكثر من عشرين قولاً ومجموعها يشمل جميع المخلوقات جملة وتفصيلاً.
أما جملة فقالوا: إنما الوتر هو الله، للحديث:
"إن الله وتر يحب الوتر" ، وما سواه شفع، كما في قوله: { { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } [الذاريات: 49]، فهذا شمل كل الوجود الخالق والمخلوق، كما في عموم { { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } [الحاقة: 38-39].
أما التفصيل فقالوا: المخلوقات إما شفع كالحيوانات أزواجاً، والسماء. والأرض، والجبل، والبحر، والنار، والماء. وهكذا ذكروا لكل شيء مقابله، ومن الأشياء الفرد كالهواء وكلها من باب الأمثلة.
والواقع أن أقرب الأقوال عندي والله أعلم: أنه هو الأول لأنه ثبت علمياً أنه لا يوجد كائن موجود بمعنى الوتر قط حتى الحصاة الصغيرة.
فإنه ثبت أن كل كائن جماد أو غيره مكون من ذرات والذرة لها نواه ومحيط، وبينهما ارتباط وعن طريقهما التفجير الذي اكتشف في هذا العصر، حتى في أدق عالم الصناعة كالكهرباء، فإنها من سالب وموجب، وهكذا لا بد من دورة كهربائية للحصول على النتيجة من أي جهاز كان، حتى الماء الذي كان يظن به البساطة فهو زوج وشفع من عنصرين، أكسجين وهدروجين، ينفصلان إذا وصلت درجة حرارة الماء إلى مائة إلى الغليان، ويتآلفان إذا نزلت الدرجة إلى حد معين فيتقاطران ماء، وهكذا.
ونفس الهواء عدة غازات وتراكيب، فلم يبق في الكون شيء قط فرداً وتراً بذاته، إلا ما نص عليه الحديث
"إن الله وتر يحب الوتر" ويمكن حمل الحديث على معنى الوتر فيه مستغنى بذاته عن غيره، والواحد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله. فصفاته كلها وتر كالعلم بلا جهل والحياة بلا موت. إلخ. بخلاف المخلوق، وقلنا: المستغنى بذاته عن غيره، لأن كل مخلوق شفعاً، فإن كل عنصر منه في حاجة إلى العنصر الثاني، ليكون معه ذاك الشيء والله سبحانه بخلاف ذلك. ولهذا كان القول الأول، وهو أن الوتر هو الله، والشفع هو المخلوقات جميعها، هو القول الراجح، وهو الأعم في المعنى.
قوله { وَٱللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } اتفق المفسرون على المعنى وهو سريان الليل، ولكن الخلاف في التعيين هل المراد به عموم الليالي في كل ليلة أم ليلة معينة، وما هي؟
فقيل: بالعموم كقوله:
{ { وَٱللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ } [التكوير: 17].
وقيل: بالخصوص في ليلة مزدلفة أو ليلة القدر.
وأيضاً يقال: إذا كان الفجر فجر النحر، والعشر عشر ذي الحجة فيكون { وَٱللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } ليلة الجمع. والله تعالى أعلم.
وقد رجح القرطبي وغيره عموم الليل، وقد جمع في هذا القسم جميع الموجودات جملة وتفصيلاً، فشملت الخالق والمخلوق والشفع والوتر إجمالاً وتفصيلاً، في انفجار الفجر وانتشار الخلق وسريان الليل وسكون الكون، والعبادات في الليالي العشر.
فكان من أعظم ما أقسم الله به قوله تعالى: { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ } أي عقل، والحجر كل مادته تدور على الإحكام والقوة، فالحجر لقوته، والحجرة لإحكام ما فيها. والعقل سمي حِجراً بكسر الحاء. لأنه يحجر صاحبه عما لا يليق، والمحجور عليه لمنعه من تصرفه وإحكام أمره، وحجر المرأة لطفلها، فهذه المقسم بها الخمسة هل فيها قسم كاف لذي عقل، والجواب: بلى، وهذا ما يقوي هذا القسم بلا شك.
ثم اختلف في جواب هذا القسم حيث لم يصرح تعالى به، كما صرح به في نظيره، وهو قوله:
{ { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [الواقعة: 75-76]. ثم صرَّح بالمقسم عليه { { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } [الواقعة: 77] الآية. وهنا لم يصرح به من عظم القسم فوقع الخلاف في تعيينه.
فقيل: هو مقدر تقديره ليعذبن يدل له قوله:
{ { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ } [الفجر: 6] - إلى قوله: - { { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } [الفجر: 13].
وقيل: موجود وهو قوله:
{ { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } [الفجر: 14]، قاله القرطبي.
وهذا من حيث الصناعة في اللغة وأساليب التفسير وجيه، ولكن يوجد في نظري والله تعالى أعلم: ارتباط بين القسم وجوابه وبينما يجيء في آخر السورة من قوله:
{ { كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً } [الفجر: 21]، إلى آخر السورة.كما أنه يظهر ارتباط كبير بينه وبين آخر السورة التي قبلها، إذ جاء فيها { { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ * فَيْعَذِّبُهُ ٱللَّهُ ٱلْعَذَابَ ٱلأَكْبَرَ } [الغاشية: 21-24]، { وَٱلْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ } [الفجر: 1-2] - إلى قوله - { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ } [الفجر: 5] لأن ما فيه من الوعيد بالعذاب الأكبر والقصر في إيابهم إلى الله وحده وحسابهم عليه فحسب يتناسب معه هذا القسم العظيم. أما ارتباطه بما في آخر السورة، فهو أن المقسم به هنا خمس مسميات { وَٱلْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَٱلشَّفْعِ وَٱلْوَتْرِ * وَٱللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } [الفجر: 1-4]، والذي في آخر السورة أيضاً خمس مسميات: { { دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } [الفجر: 21-23]. صور اشتملت على اليوم الآخر كله من أول النفخ في الصور، ودك الأرض إلى نهاية الحساب، وتذكر كل إنسان ماله وما عليه، تقابل ما اشتمل عليه القسم المتقدم من أمور الدنيا.