التفاسير

< >
عرض

لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ
١
وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ
٢
-البلد

أضواء البيان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ }.
تقدم الكلام على هذه اللام، وهل هي لنفي القسم أو لتأكيده، وذلك عند قوله تعالى:
{ { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } [القيامة: 1]، إلاَّ أنها هنا ليست للنفي، لأن الله تعالى قد أقسم بهذا البلد في موضع آخر، وهو في قوله تعالى: { { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ } [التين: 1-3]، لأن هذا البلد مراد به مكة إجماعاً لقوله تعالى بعده: { وَأَنْتَ } - أي الرسول صلى الله عليه وسلم - { حِلٌّ }، أي حال أو حلال { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } [البلد: 2]، أي مكة، على ما سيأتي إن شاء الله.
وقد ذكر القرطبي وغيره نظائرها من القرآن، والشعر العربي مما لا يدل على نفي، كقوله تعالى:
{ { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } [الأعراف: 12]، مع أن المراد ما منعك من السجود، وكقول الشاعر:

تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع

أي وكاد صميم القلب يتقطع.
وقد بحثها الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بحثاً مطولاً في دفع إيهام الاضطراب.
وقوله تعالى: { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ }، حل: بمعنى حال، والفعل المضعف يأتي مضارعه من باب، نصر، وضرب، فإن كان متعدياً كان من باب نصر.
تقول: حل العقدة يحلها بالضم، وتقول: حل بالمكان يحل بالكسر إذا أقام فيه، والإحلال دون الإحرام.
وقد اختلف في المراد بحل هل هو من الإحلال بالمكان، أو هو من التحلل ضد الإحرام؟
فأكثر المفسرين أنه من الإحلال ضد الإحرام، واختلفوا في المراد بالإحلال هذا.
فقيل: هو إحلال مكة له في عام الفتح، ولم تحل لأحد قبله ولا بعده.
وقيل:حل: أي حلال له ما يفعل بمكة غير آثم، بينما هم آثمون بفعلهم.
وقيل: حل: أي من المشركين معظمون هذا البلد وحرمته في نفوسهم، ولكنهم مستحلون إيذاءك وإخراجك.
وذكر أبو حيان: أنه من الحلول والبقاء والسكن، أي وأنت حال بها. 1هـ.
وعلى الأول يكون إخباراً عن المستقبل ووعداً بالفتح، وأنها تحل له بعد أن كانت حراماً، فيقاتل أهلها وينتصر عليهم أو أنه تسلية له، وأن الله عالم بما يفعلون به، وسينصره عليهم.
وعلى الثاني: يكون تأكيداً لشرف مكة، إذ هي أولاً فيها بيت الله وهو شرف عظيم، ثم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حال فيها بين أهلها.
والذي يظهر والله تعالى أعلم: أن هذا الثاني هو الراجح، وإن كان أقل قائلاً، وذلك لقرائن من نفس السورة ومن غيرها من القرآن الكريم.
منها: أن حلوله صلى الله عليه وسلم بهذا البلد له شأن عظيم فعلاً، وأهمه الله رافع عنهم العذاب لوجوده فيهم، كما في قوله تعالى:
{ { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [الأنفال: 33]، فكأنه تعالى يقول: وهذا البلد الأمين من العذاب، وهؤلاء الآمنون من العذاب بفضل وجودك فيهم.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم بحلوله فيها بين أظهرهم، يلاقي من المشاق ويصبر عليها.
وفيه أروع المثل للصبر على المشاق في الدعوة، فقد آذوه كل الإيذاء، حتى وضعوا سلا الجزور عليه وهو يصلي عند الكعبة. وهو يصبر عليهم، وآذوه في عودته من الطائف، وجاء ملك الجبال نصرة له، فأبى وصبر ودعا لهم، ومنعوه الدخول إلى بلده مسقط رأسه فصبر، ولم يدع عليهم، ورضى الدخول في جوار رجل مشرك وهذا هو المناسب لقوله بعده
{ { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَدٍ } [البلد: 4]، وهذا من أعظمه.
فإذا كان كل إنسان يكابد في حياته، أياً كان هو، ولأي غرض كان، فمكابدتك تلك جديرة بالتقدير والإعظام، حتى يقسم بها. والله تعالى أعلم.