التفاسير

< >
عرض

فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ
٩
وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ
١٠
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ
١١
-الضحى

أضواء البيان في تفسير القرآن

مجيء الفاء هنا مشعر، إما بتفريغ وهذا ضعيف، وإما بإفصاح عن تعدد، وقد ذكر الجمل بتقدير، مهما يكن من شيء.
وقد ساق تعالى هنا ثلاث مسائل: الأولى معاملة الأيتام فقال: { فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ }، أي كما آواك والله فآوه، وكما أكرمك فأكرمه.
وقالوا: قهر اليتيم أخذ ماله وظلمه.
وقيل: قرء بالكاف "تكهر"، فقالوا: هو بمعنى القهر إلاَّ أنه أشد.
وقيل: هو بمعنى عبوسة الوجه، والمعنى أعم، كما قال صلى الله عليه وسلم:
"اللَّهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ومن العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن غلبة الدَّيْن وقهر الرجال" ، فالقهر أعم من ذلك.
وبالنظر في نصوص القرآن العديدة في شأن اليتيم، والتي زادت على العشرين موضعاً، فإنه يمكن تصنيفها إلى خمسة أبواب كلها تدور حول دفع المضار عنه، وجلب المصالح له في ماله وفي نفسه، فهذه أربعة، وفي الحالة الزوجية، وهي الخامسة. أما دفع المضار في ماله، ففي قوله تعالى:
{ { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [الأنعام: 152]، جاءت مرتين في سورة الأنعام والأخرى في سورة الإسراء، وفي كل من السورتين ضمن الوصايا العشر المعروفة في سورة الأنعام، بدأت بقوله تعالى: { { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [الأنعام: 151].
وذكر قتل الولد وقربان الفواحش وقتل النفس ثم مال اليتيم. ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن.
ويلاحظ أن النهي منصب على مجرد الاقتراب من ماله إلاّ بالتي هي أحسن، وقد بين تعالى التي هي أحسن بقوله:
{ { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ } [النساء: 6].
وقد نص الفقهاء على أن من ولي مال اليتيم واستحق أجراً، فله الأقل من أحد أمرين: إما نفقته في نفسه، وإما أجرته على عمله، أي إن كان العمل يستحق أجرة ألف ريال، ونفقته يكفي لها خمسمائة أخذ نفقته فقط، وإن كان العمل يكفيه أجرة مائة ريال، ونفقته خمسمائة أخذ أجرته مائة فقط، حفظاً لماله.
ثم بعد النهي عن اقتراب مال اليتيم ذلك، فقد تتطلع بعض النفوس إلى فوارق بسيطة من باب التحيل أو نحوه، من استبدال شيء مكان شيء، فيكون طريقاً، لاستبدال طيب بخبيث، فجاء قوله تعالى:
{ { وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } [النساء: 2].
والحوب: أعظم الذنب، ففيه النهي عن استبدال طيب ماله، بخبيث مال الولي أو غيره حسداً له على ماله، كما نهى عن خلط ماله مع مال غيره كوسيلة لأكله مع مال الغير، وهذا منع للتحيل وسد الذريعة، حفظاً لماله.
ثم يأتي الوعيد الشديد في صورة مفزعة في قوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَامَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [النساء: 10].
وقد اتفق العلماء: أن الآية شملت في النهي عن أكل أموال اليتامى كل ما فيه إتلاف أو تفويت سواء كان بأكل حقيقة أو باختلاس أو بإحراق أو إغراق، وهو المعروف عند الأصوليين بالإلحاق بنفي الفارق، إذ لا فرق في ضياع مال اليتيم عليه، بين كونه بأكل أو إحراق بنار أو إغراق في ماء حتى الإهمال فيه، فهو تفويت عليه وكل ذك حفظاً لماله.
وأخيراً، فإذا تم الحفاظ على ماله لم يقربه إلا بالتي هي أحسن، ولم يبدله بغيره أقل منه، ولم يخلطه بماله ليأكله عليه، ولم يعتد عليه بأي إتلاف كان محفوظاً له، إلى أن يذهب يتمه ويثبت رشده، فيأتي قوله تعالى:
{ { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } [النساء: 6].
ثم أحاط دفع المال إليه بموجبات الحفظ بقوله في آخر الآية:
{ { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } [النساء: 6]، أي حتى لا تكون مناكرة فيما بعد.
وفي الختام ينبه الله فيهم وازع مراقبة الله بقوله:
{ { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً } [النساء: 6]، وفيه إشعار بأن أمواله تدفع إليه بعد محاسبة دقيقة فيما له وعليه.
ومهما يكن من دقة في الحساب، فالله سيحاسب عنه، وكفى بالله حسيباً، وهذا كله في حفظ ماله.
أما جلب المصالح، فإننا نجد فيها أولاً جعله مع الوالدين، والأقربين، في عدة مواطن، منها قوله تعالى:
{ { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَامَىٰ } [البقرة: 215].
ومنها قوله: إيراده في أنواع البر من الإيمان بالله وإنفاق المال
{ { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلْكِتَابِ وَٱلنَّبِيِّينَ وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ } [البقرة: 177]، إلى آخر الآية.
ومنها: ما هو أدخل في الموضوع حيث جعل له نصيباً في التركة في قوله:
{ { وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينُ فَٱرْزُقُوهُمْ مِّنْهُ } [النساء: 8]، بصرف النظر عن مباحث الآية من جهات أخرى، ومرة أخرى يجعل لهم نصيباً فيما هو أعلى منزلة في قوله تعالى: { { وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِٱللَّهِ } [الأنفال: 41] الاية.
وكذلك في سورة الحشر في قوله تعالى:
{ { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } [الحشر: 7].
فجعلهم الله مع ذي القربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد جعله الله في عموم وصف الأبرار، وسبباً للوصول إلى أعلى درجات النعيم في قوله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } [الإنسان: 5].
وذكر أفعالهم التي منها: أنهم يوفون بالنذر, ثم بعدها: أنهم يطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً.
وجعل هذا الإطعام اجتياز العقبة في قوله:
{ { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ } [البلد: 11-15] الآية.
ولقد وجدنا ما هو أعظم من ذلك، وهو أن يسوق الله الخضر وموسى عليهما السلام ليقيما جداراً ليتيمين على كنز لهما حتى يبلغا أشدهما، في قوله تعالى:
{ { وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } [الكهف: 82].
هذا هو الجانب المالي من دفع المضرة عنه في حفظه ماله، ومن جانب جلب النفع إليه عن طريق المال.
أما الجانب النفسي فكالآتي:
أولاً: عدم مساءته في نفسه، فمنها قوله تعالى:
{ { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ * فَذَلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } [الماعون: 1-3].
ومنها قوله:
{ { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ * وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } [الفجر: 17-18]، فقدم إكرامه إشارة له.
ثانيا: في الإحسان إليه، منها قوله تعالى:
{ { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ } [البقرة: 83]، فيحسن إليه كما يحسن لوالديه ولذي القربى.
ومنها سؤال، وجوابه من الله تعالى:
{ { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ } [البقرة: 220]، أي تعاملونهم كما تعاملون الإخوان، وهذا أعلى درجات الإحسان والمعروف، ولذا قال تعالى: { وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ }.
وفي تقديم ذكر المفسد على المصلح: إشعار لشدة التحذير من الإفساد في معاملته، ولأنه محل التحذير في موطن آخر جعلهم بمنزلة الأولاد في قوله:
{ { وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [النساء: 9].
أي حتى في مخاطبتهم إياهم لأنهم بمنزلة أولادهم، بل ربما كان لهم أولاد فما بعد أيتاماً من بعدهم، فكما يخشون على أولادهم إذا صاروا أيتاماً من بعدهم، فليحسنوا معاملة الأيتام في أيديهم وهذه غاية درجات العناية والرعاية.
تلك هي نصوص القرآن في حسن معاملة اليتيم وعدم الإساءة إليه، مما يفصل مجمل قوله: { فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ }.
لا بكلمة سديدة ولا بحرمانه من شيء يحتاجه، ولا بإتلاف ماله، ولا بالتحيل على أكله وإضاعته، ولا بشيء بالكلية، لا في نفسه ولا في ماله.
والأحاديث من السنة على ذلك عديدة بالغة مبلغها في حقه، وكان صلى الله عليه وسلم أرحم الناس به وأشفقهم عليه، حتى قال:
"أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين -يشير إلى السبابة والوسطى- وفرّج بينهما" رواه البخاري وأبو داود والترمذي.
وفي رواية أبي هريرة عند مسلم ومالك:
"كافل اليتيم له أو لغيره" أي قريب له أو بعيد عنه.
وعن أحمد والطبراني مرفوعاً:
"من ضم يتيماً من بين أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه، وجبت له الجنة" قال المنذري: رواه أحمد، محتج بهم إلا علي بن زيد.
وعن ابن ماجه عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم، يُحسن إليه. وشر بيت في المسلمين، بيت فيه يتيم يُساء إليه" .
وجاء عند أبي داود ما هو أبعد من هذا وذلك، حتى إن الأم لتعطل مصالحها من أجل أيتامها، في قوله صلى الله عليه وسلم "أنا وامرأة الخدين كهاتين يوم القيامة - وأومأ بيده - يزيد بن زربع - بفتح الزاي وإسكان الباء - بالوسطى والسبابة امرأة آمت زوجها - بألف ممدودة وميم مفتوحة وتاء - أصبحت أيماً، بوفاة زوجها - ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا" .
وجعله الله دواء لقساوة القلب، كما روى أحمد ورجاله الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال: "امسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين" .
وهنا يتجلى سر لطيف في مثالية التشريع الإسلامي، حيث يخاطب الله تعالى أفضل الخلق وأرحمهم، وأرأفهم بعباد الله، الموصوف بقوله تعالى: { { بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 128]، وبقوله: { { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم: 4]، ليكون مثالاً مثالياً في أمة قست قلوبها وغلظت طباعها، فلا يرحمون ضعيفاً، ولا يؤدون حقاً إلى من قوة يدينون لمبدأ "من عزَّ بزّ، ومن غلب استلب" يفاخرون بالظلم ويتهاجون بالأمانة، كما قال شاعرهم:

قبيلة لا يخفرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل

ويقول حكيمهم:

ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لم يظلم الناس يظلم

قوم يئدون بناتهم، ويحرمون من الميراث نساءهم، يأكلون التراث أكلاً لماً، ويحبون المال حباً جماً، فقلب مقاييسهم وعدل مفاهيمهم، فألان قلوبهم ورقق طباعهم، فلانوا مع هذا الضعيف وحفظوا حقه.
وحقيقة هذا التشريع الإلهي الحكيم منذ أربعة عشر قرناً تأتي فوق كل ما تتطلع إليه آمال الحضارات الإنسانية كلها، مما يحقق كمال التكامل الاجتماعي بأبهى معانيه، المنوه عنه في الآية الكريمة
{ { وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } [النساء: 9]، فجعل كافل اليتيم اليوم، إنما يعمل حتى فيما بعد لو ترك ذرية ضعافاً، وعبَّر هنا عن الأيتام بلازمهم وهو الضعف إبرازاً لحاجة اليتيم إلى الإحسان، بسبب ضعفه فيكونون موضع خوفهم عليهم لضعفهم، فليعاملوا الأيتام تحت أيديهم، كما يحبون أن يعامل غيرهم أيتامهم من بعدهم.
وهكذا تضع الآية أمامنا تكافلاً اجتماعياً في كفالة اليتيم، بل إن اليتيم نفسه، فإنه يتيم اليوم ورجل الغد، فكما تحسن إليه يحسن هو إلى أيتامك من بعدك، وكما تدين تدان، فإن كان خيراً كان الخير بالخير والبادئ أكرم، وإن شراً كان بمثله والبادئ أظلم.
ومع هذا الحق المتبادل، فإن الإسلام يحث عليه ويعني به، ورغَّب في الإحسان إليه وأجزل المثوبة عليه، وحذّر من الإساءة عليه، وشدد العقوبة فيه.
وقد يكون فيما أوردناه إطالة، ولكنه وفاءً بحق اليتيم أولاً، وتأثر بكثرة ما يلاقيه اليتيم ثانياً.
تنبيه
ليس من باب الإساءة إلى اليتيم تأديبه والحزم معه، بل ذلك من مصلحته كما قيل:

قس ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم

وقوله:
{ وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ } [10]، قالوا: السائل الفقير والمحتاج، يسأل ما يسد حاجته وهو مقابل لقوله:
{ { وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَىٰ } [الضحى: 8]، أي فكما أغناك الله وبدون سؤال، فإذا أتاك سائل فلا تنهره، ولو في رد الجواب بالتي هي أحسن.
ومعلوم: أن الجواب بلطف، قد يقوم مقام العطاء في إجاية السائل، وكان صلى الله عليه وسلم إذا لم يجد ما يعطيه للسائل يعده وعداً حسناً لحين مسيره، أخذاً من قوله تعالى:
{ { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } [الإسراء: 28].
وقد أورد الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيتين عند هذه الآية في هذا المعنى، هما قول الشاعر:

إن لم تكن ورق يوماً أجود بها للسائلين فإني لين العود
لا يعدم السائلون الخير من خلقي إما نوالي وإما حسن مردود

فليسعد النطق إن لم يسعد المال.
وقيل: السائل المستفسر عن مسائل الدين والمسترشد، وقالوا هذا مقابل قوله: { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } [الضحى: 7]، أي لا تنهر مستغنياً ولا مسترشداً، كقوله تعالى:
{ { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ } [عبس: 1-2].
وقد كان صلى الله عليه وسلم رحيماً شفيقاً على الجاهل حتى يتعلم، كما في
"قصة الأعرابي الذي بال في المسجد حين صاح به الصحابة فقال لهم لا تزرموه، إلى أن قال الأعرابي: اللهم ارحمني وارحم محمداً ولا ترحم معنا أحداً أبداً" وكالآخر الذي جاء يضرب صدره وينتف شعره ويقول: "هلكت وأهلكت، واقعت أهلي في رمضان، حتى كان من أمره أن أعطاه فرقاً من طعامه يكفّر به عن ذنبه، فقال: أعلى أفقر منا يا رسول الله؟ فقال: "قم فأطعمه أهلك" .
وقد كان صلى الله عليه وسلم يقف للمرأة في الطريق يصغي إليها حتى يضيق من معه وهو يصبر لها ولم ينهرها، بل يجيبها على أسئلتها.
وقد حث صلى الله عليه وسلم على إكرام طلب العلم، وبين أن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم، وأن الحيتان في البحر لتستغفر له رضى بما يصنع.
وقوله: { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [11]: النعمة كل ما أنعم الله به على العبد، وهي كل ما ينعم به العبد من مال وعافية وهداية ونصرة من النعومة واللين، فقيل: المراد بها المذكورات والتحدث بها شكرها عملياً من إيواء اليتيم كما آواه الله، وإعطاء السائل كما أغناه الله، وتعليم المسترشد كما علمه الله، وهذا من شكر النعمة، أي كما أنعم الله عليك، فتنعّم انت على غيرك تأسياً بفعل الله معك.
وقيل: التحدث بنعمة الله هو التبليغ عن الله من آية وحديث، والنعمة هنا عامة لتنكيرها وإضافتها، كما في قوله تعالى:
{ { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } [النحل: 53]، أي كل نعمة، ولكن الذي يظهر أنها في الوحي أظهر أو هو أولى بها، أو هو أعظمها، لقوله تعالى: { { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأِسْلاَمَ دِيناً } [المائدة: 3]، فقال: نعمتي، وهنا نعمة ربك. ولا يبعد عندي أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما نحر مائة ناقة في حجة الوداع، لما أنزل الله عليه هذه الآية، ففعل شكراً لله على إتمام النعمة بإكمال الدين.
وقد قالوا في مناسبة هذه السورة بما قبلها: إن التي قبلها في الصديق
{ { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى * ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ * إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ ٱلأَعْلَىٰ * وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ } [الليل: 17-21]، وهنا في الرسول صلى الله عليه وسلم { { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [الضحى: 3-5]، مع الفارق الكبير في العطاء والخطاب.
والواقع أن مناسبات السور القصار، أظهر من مناسبات الآي في السورة الواحدة، كما بين هاتين السورتين والليل مع والضحى، ثم ما بين الضحى وألم نشرح، إنها تتمة النعم التي يعددها الله تعالى على رسوله.
وهكذا على ما ستأتي الإشارة إليه في محله إن شاء الله تعالى. أعلم علماً بأن بعض العلماء لم يعتبر تلك المناسبات.
ولكن ما كانت المناسبة فيه واضحة، فلا ينبغي إغفاله، وما كانت خفية لا ينبغي التكلف له.