التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ
٧
وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرْغَبْ
٨
-الشرح

أضواء البيان في تفسير القرآن

النصب: التعب بعد الاجتهاد، كما في قوله: { { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } [الغاشية: 2-3].
وقد يكون النصب للدنيا أو للآخرة، ولم يبين المراد بالنصب في أي شيء، فاختلف فيه، ولكنها أقوال متقاربة.
فقيل: في الدعاء بعد الفراغ من الصلاة.
وقيل: في النافلة من الفريضة، والذي يشهد له القرآن، أنه توجيه عام للأخذ بحظ الآخرة بعد الفراغ من عمل الدنيا، كما في مثل قوله تعالى:
{ { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [الإسراء: 79]، وقوله: { { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } [المزمل: 6] أي لأنها وقت الفراغ من عمل النهار وفي سكون الليل: وقوله: { { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا } [النصر: 1-3]، فيكون وقته كله مشغولاً، إما للدنيا وإما للدين.
وفي قوله: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ }، حل لمشكلة الفراغ التي شغلت العالم حيث لم تترك للمسلم فراغاً في وقته، لأنه إما في عمل للدنيا، وإما في عمل للآخرة.
وقد روي عن ابن عباس: "أنه مر على رجلين يتصارعان فقال لهما: ما بهذا أُمرنا بعد فراغنا".
وروي عن عمر أنه قال: "إني لأكره لأحدكم أن يكون خالياً سبهللا، لا في عمل دنيا ولا دين" ولهذا لم يَشْكُ الصدر الأول فراغاً في الوقت.
ومما يشير إلى وضع الصدر الأول، ما رواه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: قلت لعائشة رضي الله عنها -وأنا يومئذٍ حديث السن-: "أرأيت قول الله تعالى:
{ { إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [البقرة: 158]، فما على الرجل شيء ألا يطوف بهما؟ فقالت عائشة: كلا لو كان كما تقول لكانت، فلا جناح عليه الا يطوف بهما".
فانظر رحمك الله وإياي، فيم يفكر حديث السن، وكيف يستشكل معاني القرآن، فمثله لا يوجد عنده فراغ.
تنبيه
ذكر الألوسي في قوله تعالى: { فَٱنصَبْ } قراءة شاذة بكسر الصاد، وأخذها الشيعة على الفراغ من النبوة، ونصب علي إماماً، وقال: ليس الأمر متعيناً بعلي فالسُّني يمكن أن يقول: فانصب أبا بكر، فإن احتج الشيعي بما كان في غدير حم، احتج السني بأن وقته لم يكن وقت الفراغ من النبوة.
بلى إن قوله صلى الله عليه وسلم:
"مُروا أبا بكر فليصلّ بالناس" كان بعده، وفي قرب فراغه صلى الله عليه وسلم من النبوة، إذا كان في مرضه الذي مات فيه.
فإن احتج الشيعي بالفراغ من حجة الوداع، رده السني بأن الآية قبل ذلك. انتهى.
وعلى كل إذا كان الشيعة يحتجون بها، فيكفي ارد احتجاجهم أنها شاذة، وتتبع الشواذ قريب من التأويل المسمى باللعب عند علماء التفسير، وهو صرف اللفظ عن ظاهره، لا لقرينة صارفة ولا علاقة رابطة.
ومن اللعب في التأويل في هذه الآية، كا يفعله بعض العوام: رأيت رجلاً عامياً عادياً، قد لبس حلة كاملة من عمامة وثوب صقيل وحزام جميل مما يسمونه نصبة، أي بدلة كاملة، فقال له رجل: قد لبس حلة كاملة من عمامة وثوب صقيل وحزام جميل مما يسمونه نصبة، أي بدلة كاملة، فقال له رجل: ما هذه النصبة يا فلان؟ فقال له: لما فرغت من عملي نصبت، كما قال تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ }.
كما سمعت آخر يتوجع لقلة ما في يده، ويقول لزميله: ألا تعرف لي شخصاً انصب عليه، أي آخذ قرضة منه، فقلت له: ولم تنصب عليه؟ والنصب كذب وحرام. فقال: إذا لم يكن عند الإنسان شيء، ويده خالية فلا بأس، لأن الله قال: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ }، وهذا وأمثاله مما يتجرأ عليه العامة لجهلهم، أو أصحاب الأهواء لنحلهم.
قوله تعالى { وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرْغَبْ }.
التقديم هنا مشعر بالتخصيص وهو كقوله تعالى:
{ { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } [الفاتحة: 5]، أي لا نعبد غيرك: وهكذا هنا لا ترغب إلى غيره سبحانه، كأنه يقول: الذي أنعم عليك بكل ما تقدم، هو الذي ترغب فيما عنده لا سواه.