التفاسير

< >
عرض

لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ
١
رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً
٢
فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ
٣
وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ
٤
-البينة

أضواء البيان في تفسير القرآن

ذكر هنا الذين كفروا، ثم جاءت من، وجاء بعدها أهل الكتاب والمشركين، مما يشعر بأن وصف الكفر يشمل كلاً من أهل الكتاب والمشركين، كما يشعر مرة أخرى أن المشركين ليسوا من أهل الكتاب لوجود العطف، وأن أهل الكتاب ليسوا من المشركين.
وهذا المبحث معروف عند المتكلمين وعلماء التفسير، واتفقوا على: أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وأن المشركين هم عبدة الأوثان، والكفر بجميع القسمين.
وأهل الكتاب مختص باليهود والنصارى، ولكن الخلاف هل الشرك يجمعهما أيضاً أم لا؟
فبين الفريقين عموم وخصوص، عموم في الكفر وخصوص في أهل الكتاب لليهود والنصارى، وخصوص في المشركين لعبدة الأوثان.
ولكن جاءت آيات تدل على أن مسمى الشرك يشمل أهل الكتاب أيضاً: كما في قوله تعالى:
{ { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ وَقَالَتْ ٱلنَّصَارَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللَّهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُوۤاْ إِلَـٰهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [التوبة: 30-31].
فجعل مقالة كل من اليهود والنصارى إشراكاً.
وجاء عن عبد الله بن عمر منع نكاح الكتابية وقال: "وهل كبر إشراكاً من قولها:
{ { ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } [البقرة: 116]، فهو وإن كان مخالفاً للجمهور في منع الزواج من الكتابيات، إلا أنه اعتبرهن مشركات.
ولهذا الخلاف والاحتمال وقع النزاع فى مسمى الشرك، هل يشمل أهل الكتاب أم لا؟ مع أننا وجدنا فرقاً في الشرع في معاملة أهل الكتاب ومعاملة المشركين، فأحل ذبائح أهل الكتاب ولم يحلها من المشركين، وأحل نكاح الكتابيات ولم يحله من المشركات، كما قال تعالى:
{ { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ } [البقرة: 221].
وقوله:
{ { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ } [الممتحنة: 10].
وقال:
{ { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } [الممتحنة، 10]، بين ما في حق الكتابيات قال: { { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [المائدة: 5]، فكان بينهما مغايرة في الحكم.
وقد جمع والدنا الشيخ محمد الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه بين تلك النصوص في دفع إيهام الاضطراب عند قوله تعالى:
{ { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ } [التوبة: 30]، المتقدم. ذكرها جمعاً مفصلاً مفاده أن الشرك الأكبر المخرج من الملة أنواع، وأهل الكتاب متصفون ببعض دون بعض، إلى آخر ما أوردهرحمه الله تعالى علينا وعليه.
ولعل في نفس آية { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ }، فيها إشارة إلى ما ذكره رحمة الله تعالى علينا وعليه من وجهين:
الأول: قوله تعالى:
{ { يُضَاهِئُونَ قَوْلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [التوبة: 30]، أي يشابهونهم في مقالتهم، وهذا القدر اتصف به المشركون من انواع الشرك.
الثاني: تذييل الآية بصيغة المضارع عما يشركون بين ما وصف عبدة الأوثان في سورة البينة بالاسم والمشركين.
ومعلوم أن صيغة الفعل تدل على التجدد والحدوث، وصيغة الاسم تدل على الدوام والثبوت، فمشركو مكة وغيرهم دائمون على الإشراك وعبادة الأصنام، وأهل الكتاب يقع منهم حيناً وحيناً.
وقد أخذ بعض العلماء: أن الكفر ملة واحدة، فورث الجميع من بعض، ومنع الآخرون على أساس المغايرة والعلم عند الله تعالى.
تنبيه
بقي المجوس وجاءت السنة أنهم يعاملون معاملة أهل الكتاب لحديث:
"سنوا بهم سنة أهل الكتاب" .
وقوله تعالى: { مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ }، اختلف في منفكين اختلافاً كثيراً عند جميع المفسرين، حتى قال الفخر الرازي عند أول هذه السورة ما نصه: قال الواحدي في كتاب البسيط: هذه الآية من أصعب ما في القرآن العظيم نظماً وتفسيراً، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء.
ثم إنهرحمه الله لم يلخص كيفية الإشكال فيها.
وأنا أقول وجه الإشكال: أن تقدير الآية: { لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ }، التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إنه لم يذكر منفكون عماذا لكنه معلوم، إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه.
فصار التقدير: لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة، التي هي الرسول، ثم قال بعد ذلك { وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ }، وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول عليه السلام، فحينئذٍ يحصل بين الآية الأولى والآية الثانية تناقض في الظاهر، هذا منتهى الإشكال فيما أظن.
اهـ. حرفياً.
وقد سقت كلامه لبيان مدى الإشكال في الآيتين، وهو مبني على أن منفكين بمعنى تاركين: وعليه جميع المفسرين.
والذي جاء عن الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه: أن منفكين أي مرتدعين عن الكفر والضلال، حتى تأتيهم البينة، أي أتتهم.
ولكن في منفكين، وجه يرفع هذا الإشكال، وهو أن تكون منفكين بمعنى متروكين لا بمعنى تاركين، أي لم يكونوا جميعاً متروكين على ما هم عليه من الكفر والشرك حتى تأتيهم البينة على معنى قوله تعالى:
{ { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } [القيامة: 36]، وقوله: { { الۤـمۤ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [العنكبوت: 1-2]، أي لن يتركوا وقريب منه قوله تعالى: { { قَالُواْ يٰهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِيۤ آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ } [هود: 53].
وقد حكى أبو حيان قولاً عن ابن عطية قوله، ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى، وذلك أن يكون المراد: لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم، حتى يبعث الله تعالى إليهم رسولاً منذراً، تقوم به الحجة، ويتم على من آمن النعمة، فكأنه قال: ما كانوا ليتركوا سدى، ولهذا نظائر في كتاب الله تعالى اهـ.
فقول ابن عطية يتفق مع ما ذكرناه، ويزيل الإشكال الكبير عن المفسرين، كما أسلفنا.
ولشيخ الإسلام ابن تيميةرحمه الله قول في ذلك نسوقه لشموله، وهو ضمن كلامه على هذه السورة في المجموع مجلد 16 ص 495 قال:
وفي معنى قوله تعالى: لم يكن هؤلاء وهؤلاء منفكين. ثلاثة أقوال ذكرها غير واحد من المفسرين.
هل المراد: لم يكونوا منفكين عن الكفر؟
أو هل لم يكونوا مكذبين بمحمد حتى بعث، فلم يكونوا منفكين من محمد والتصديق بنبوته حتى بعث.
أو المراد: أنهم لم يكونوا متروكين حتى يرسل إليهم رسول.
وناقش تلك الأقوال وردها كلها ثم قال: فقوله: { لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ }، أي لم يكونوا متروكين باختيار أنفسهم يفعلون ما يهوونه لا حجر عليهم، كما أن المنفك لا حجر عليه، وهو لم يقل مفكوكين، بل قال: منفكين، وهذا أحسن، إلى أن قال: والمقصود أنهم لم يكونوا متروكين لا يؤمرون ولا ينهون ولا ترسل إليهم رسل.
والمعنى: أن الله لا يخليهم ولا يتركهم، فهو لا يفكهم حتى يبعث اليهم رسولاً، وهذا كقوله:
{ { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } [القيامة: 36]، لا يؤمر، ولا ينهى، أي: أيظن أن هذا يكون؟ هذا ما لا يكون ألبتة، بل لا بد أن يؤمر وينهى.
وقريب من ذلك قوله تعالى:
{ { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ } [الزخرف: 3-5]. وهذا استفهام إنكار أي لأجل إسرافكم نترك إنزال الذكر، ونعرض عن إرسال الرسل.
تبين من ذلك كله أن الأصح في "منفكين" معنى "متروكين" وبه يزول الإشكال الذي أورده الفخر الرازي، ويستقيم السياق، ويتضح المعنى، وبالله تعالى التوفيق.
قوله تعالى: { حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً }.
أجمل البينة ثم فصلها فيما بعدها { رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً }.
وفي هذا قيل: إن البينة هي نفس الرسول في شخصه، لما كانوا يعرفونه قبل مجيئه، كما في قوله:
{ { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي ٱسْمُهُ أَحْمَدُ } [الصف: 6]، وقوله: { { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [البقرة: 146].
فكأن وجوده صلى الله عليه وسلم بذاته بينة لهم.
ولذا جاء في الآثار الصحيحة أنهم عرفوا يوم مولده بظهور نجم نبي الختان إلى آخر أخباره صلى الله عليه وسلم، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا، وكذلك المشركون كانوا يعرفونه عن طريق أهل الكتاب، وبما كان متصفا به صلى الله عليه وسلم، ومن جميل الصفات كما قالت له خديجة عند بدء الوحي له وفزعه منه: "كلا والله لن يحزيك الله، والله إنك لتحمل الكلّ وتعين على نوائب الدهر" إلى آخره.
وقول عمه أبي طالب: "والله ما رأيته لعب مع الصبيان ولا علمت عليه كذبة" إلخ. وقد لقبوه بالأمين.
وحادثة شق الصدر في رضاعه، بل وقبل ذلك في قصة أبيه عبد الله، لما تعرضت له المرأة تريده لنفسها، فأبى. ولما تزوج ودخل بآمنة أم النبيِّ صلى الله عليه وسلم لقيها بعد ذلك، فقالت له: لا حاجة لي بك، فقال: وكيف كنت تتعرضين لي؟ فقالت: رأيت نوراً في وجهك، فأحببت أن يكون بي، فلما تزوجت وضعته في آمنة ولم أره فيك الآن، فلا حاجة لي فيك.
فكلها دلائل على أنه صلى الله عليه وسلم كان في شخصه بينة لهم، ثم أكرمه الله بالرسالة، فكان رسولاً يتلو صحفاً مظهرة، من الأباطيل والزيغ وما لا يليق بالقرآن.
ومما استدل به لذلك قوله تعالى عنه:
{ { وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً } [الأحزاب: 46] فعليه يكون رسول من الله بدل من البينة مرفوع على البدلية، أو أن البينة ما يأتيهم به الرسول مما يتلوه عليهم من الصحف المطهرة فيها كتب قيمة.
فالتشريع الذي فيها والإخبار الذي أعلنه تكون البينة. وعلى كل، فإن البينة تصدق على الجميع، كما تصدق على المجموع، ولا ينفك أحدهما عن الآخر، فلا رسول إلا برسالة تتلى، ولا رسالة تتلى إلاَّ برسول يتلوها.
وقد عرف لفظ البينة، للإشارة إلى وجود علم عنها مسبق عليها.
فكأنه قيل: حتى تأتيهم البينة الموصوفة لهم في كتبهم، ويشير إليها ما قدمنا في أخبار عيسى عليه السلام عنه، وآخر سورة الفتح
{ { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } [الفتح: 29] الآية.
قوله تعالى: { فِيهَا كُتُبٌ }.
جمع كتاب، وقال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه: كتب: بمعنى مكتوبات.
وقال ابن جرير: في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة. يذكر القرآن بأحسن الذكر، ويثني عليه بأحسن الثناء.
وحكاه ابن كثير واقتصر عليه.
وقال القرطبي: إن الكتب بمعنى الأحكام، مستدلاً بمثل قوله تعالى:
{ { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ } [البقرة: 183] وقوله: { { كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ } [المجادلة: 21].
وقيل: الكتب القيمة: هي القرآن، فجعله كتباً، لأنه يشتمل على أبواب من البيان.
وذكر الفخر الرازي: أنه يحتمل في كتب أي الآيات المكتوبة في المصحف، وهو قريب من قول الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه.
وقال الشوكاني: المراد: الآيات والأحكام المكتوبة فيها، وهذه المعاني وإن كانت صحيحة، إلا أن ظاهر اللفظ أدل على تضمن معنى كتب منه على معنى كتابة أحكام.
والذي يظهر أن مدلول كتب على ظاهرها، وهو تضمن تلك الصحف المطهرة لكتب سابقة قيمة، كما ينص عليه قوله تعالى:
{ { بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } [الأعلى: 16-17]، ثم قال: { { إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ } [الأعلى: 18-19]، وكقوله في عموم الكتب الأولى: { { قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِيۤ } [الأحقاف: 30]، وقوله: { { نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ مِن قَبْلُ } [آل عمران: 3-4].
ولذا قال:
{ { وَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ } [الأنعام: 114]، أي بما فيه من كتبهم القيمة المتقدم إنزالها، كما في قوله: { { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ } [النور: 34].
وقوله:
{ { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ ٱلَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [النمل: 76].
وقال:
{ { وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } [الأنعام: 92]، ونحو ذلك من الآيات، مما يدل على أن آي القرآن متضمنة كتباً قيمة مما أنزلت من قبل، وقد جاء عملياً في آية الرحمن وقوله: { { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ } [المائدة: 45] أي في التوراة { { أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ } [المائدة: 45]، فهذه من الكتب القيمة التي تضمنها القرآن الكريم، كما قال: { { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَاةٌ } [البقرة: 179].
ولعل هذا بين وجه المعنى فيما رواه المفسرون عن الإمام أحمد،
"أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب أُمرت أن أقرأ عليك سورة البينة، فقال: أو ذكرت، ثم" .
وبكى رضي الله عنه، لأن فيها زيادة طمأنينة له على إيمانه بأنه آمن بكتاب تضمن الكتب القيمة المتقدمة، والتي يعرفها عبد الله بن سلام أن الرجم في التوراة لما غطاها الآتي بها، كما هو معروف في القصة. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: { وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ }.
يلاحظ أن السورة في أولها عن الكفار عموماً من أهل الكتاب والمشركين معاص، وهنا الحديث عن أهل الكتاب فقط، وذلك مما يخصهم في هذا المقام دون المشركين، وهو أنهم لأنهم أهل كتاب، وعندهم علم به صلى الله عليه وسلم، وبما سيأتي به، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
وكقوله صراحة:
{ { وَمَا تَفَرَّقُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } [الشورى: 14]، فلمعرفتهم به قبل مجيئه، واختلافهم فيه بعد مجيئه، وخصهم هنا بالذكر في قوله: { وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ }.
تنبيه
مما يدل على ما ذكرنا من معنى كتب قيمة، أمران من كتاب الله.
الأول منهما: اختصاص أهل الكتاب هنا بعد عموم الحديث عن الذين كفروا، وما قدمنا عن نصوص.
الثاني: أن القرآن لما ذكر الرسول يتلو على المشركين قال:
{ { هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } [الجمعة: 2]، فهذا نفس الأسلوب، ولكن قال: آياته، لأنهم لم يكن لهم علم بالكتب الأخرى، فاقتصر على الآيات.