التفاسير

< >
عرض

الۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ
١
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ ٱلْكَافِرُونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ
٢
-يونس

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

سورة يونس من السور التى افتتحت ببعض حروف التهجى.
وقد وردت هذه الفواتح تارة مفردة بحرف واحد، وتارة مركبة من حرفين، أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة.
فالسور التى افتتحت بحرف واحد ثلاثة، وهى سورة: ص، ق، ن.
والسور التى افتتحت بحرفين تسعة، وهي: طه، طس، يس، وحم فى ست سور، هي: غافر، فصلت، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف.
والسور التى بدئت بثلاثة أحرف، ثلاث عشرة سورة، وهى: ألم فى ست سور هى: البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة، والر فى خمس سور هى: يونس، هود، يوسف، إبراهيم، الحجر، وطسم فى سورتين هما: الشعراء، القصص.
وهناك سورتان بدئتا بأربعة أحرف وهما: الأعراف، الرعد، وسورتان بدئتا بخمسة أحرف وهما: مريم، والشورى.
فيكون مجموع السور التى افتتحت بالحروف المقطعة تسعا وعشرين سورة.
هذا، وقد وقع خلاف بين العلماء فى المعنى المقصود بتلك الحروف المقطعة التى افتتحت بها بعض السور القرآنية، ويمكن إجمال خلافهم فى رأيين رئيسين:
الرأى الأول يرى أصحابه: أن المعنى المقصود منها غير معروف، فهى من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه.
وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس - فى إحدى الروايات عنه - كما ذهب إليه الشعبى، وسفيان الثورى، وغيرهم من العلماء. فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبى أنه سئل عن فواتح السور فقال: إن لكل كتاب سرا، وإن سر هذا القرآن فى فواتح السور.
ويروى عن ابن عباس أنه قال: عجزت العلماء عن إدراكها. وعن على - رضى الله عنه - قال: "إن لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجى" وفى رواية أخرى عن الشعبى أنه قال: "سر الله فلا تطلبوه".
ومن الاعتراضات التى وجهت إلى هذا الرأى، أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس، لأنه من المتشابه، فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل، أو مثل ذلك كمثل المتكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها.
وقد أجيب عن ذلك، بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإِفهام عنها عند كل الناس، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يفهم المراد منها، وكذلك بعض أصحابه المقربين، ولكن الذى ننفيه أن يكون الناس جميعا فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة فى أوئل السور.
أما الرأى الثانى فيرى أصحابه: أن المعنى المقصود منها معلوم، وأنها ليست من المتشابه الذى استأثر الله بعلمه.
وأصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم فى تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة من أهمها ما يأتى:
1 - أن هذه الحروف أسماء للسور، بدليل قول النبى - صلى الله عليه وسلم - "من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح". وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها، كسورة "ص" وسورة "يس".
ولا يخلو هذا القول من الضعف، لأن كثيرا من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح، والغرض من التسمية رفع الاشتباه.
2 - وقيل: إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدلالة على انقضاء سورة، وابتداء أخرى.
3 - وقيل: إنها حروف مقطعة، بعضها من أسماء الله - تعالى - وبعضها من صفاته فمثلا "ألم" أصلها أنا الله أعلم.
4 - وقيل: إنها اسم الله الأعظم، إلى غير ذلك من الأقوال التى لا تخلوا من مقال. والتى أوصلها السيوطى فى كتابه"الإِتقان" إلى أكثر من عشرين قولا.
5 - ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن يقال: إن هذه الحروف المقطعة قد وردت فى افتتاح بعض السور، للإِشعار بأن هذا القرآن الذى تحدى الله به المشركين هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التى يعرفونها، ويقدرون على تأليف الكلام منها. فإذا عجزوا عن الإِتيان بسورة من مثله، فذلك لبلوغه فى الفصاحة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة.
وفضلا عن ذلك فإن تصدير بعض السور بمثل هذه الحروف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإِنصات والتدبر لأنه يطرق أسماعهم فى أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة فى مجارى كلامهم، وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها، فيترتب على ذلك أن يسمعوا حكما، وهدايات قد تكون سببا فى إيمانهم. ولعل مما يشهد بصحة هذا الرأى: أن الآيات التى تلى هذه الحروف المقطعة، تتحدث عن القرآن وعن كونه معجزة للرسول - صلى الله عليه وسلم - فى أغلب المواضع.
ومن ذلك قوله - تعالى -: فى أول سورة البقرة
{ الۤمۤ.ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } وقوله سبحانه فى أول سورة هود: { الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } وقوله - سبحانه - فى أول سورة إبراهيم: { الۤر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } وهكذا نرى أن كثيرا من السور التى افتتحت بالحروف المقطعة، قد أعقبت هذا الافتتاح بالحديث الصريح أو الضمنى عن القرآن الكريم، وأن هذه السور إذا تأملتها من أولها إلى آخرها ترى من أهدافها الأساسية إثبات وحدانية الله، وإثبات صحة الرسالة المحمدية، وإثبات أن هذا القرآن الذى هو معجزة الرسول الخالدة - منزل من عند الله - تعالى -.
هذه خلاصة لآراء العلماء فى المراد بالحروف المقطعة التى افتتحت بها بعض السور القرآنية، ومن أراد مزيدا لذلك فليرجع - مثلا - إلى كتاب "الإِتقان" للسيوطى، وإلى كتاب "البرهان" للزركشى، وإلى تفسير الآلوسى.
ثم قال - تعالى - : { تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ }.
{ تِلْكَ } اسم إِشارة والمشار إليه الآيات. والمراد بها آيات القرآن الكريم. ويندرج فيها آيات السورة التى معنا.
والكتاب: مصدر كتب كالكتب، وأصل الكتب: ضم أديم إلى أديم بالخياطة، واستعمل عرفا فى ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط والمراد به القرآن الكريم على الصحيح.
قال الآلوسى: "وأما حمل الكتاب على الكتب التى خلت قبل القرآن من التوراة والإنجيل وغيرهما، كما أخرجه ابن أبى حاتم عن قتادة فهو فى غاية البعد".
والحكيم - بزنة فعيل - مأخوذ من الفعل حكم بمعنى منع. تقول حكمت الفرس أى وضعت الحكمة فى فمها لمنعها من الجموح والنفور.
والمقصود أن هذا الكتاب ممتنع عن الفساد، ومبرأ من الخلل والتناقض والاختلاف.
قال الإِمام الرازى ما ملخصه: "وفى وصف الكتاب بكونه حكيما وجوه منها: أن الحكيم هو ذو الحكمة، بمعنى اشتماله على الحكمة - فيكون الوصف للنسبة كلابن وتامر - ومنها أن الحكيم بمعنى الحاكم، بدليل قوله - تعالى -:
{ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } ومنها أن الحكيم بمعنى المحكم والإِحكام معناه المنع من الفساد، فيكون المراد منه أنه لا تغيره الدهور أو المراد منه براءته من الكذب والتناقض".
والمعنى: تلك الآيات السامية، والمنزلة عليك يا محمد، هى آيات الكتاب، المشتمل على الحكمة والصواب المحفوظ من كل تحريف أو تبديل الناطق بكل ما يوصل إلى السعادة الدنيوية والأخروية.
وصحت الإِشارة إلى آيات الكتاب مع أنها لم تكن قد نزلت جميعها، لأن الإِشارة إلى جميعها، حيث كانت بصدد الإِنزال، ولأن الله - تعالى - قد وعد رسوله - صلى الله عليه وسلم - بنزول القرآن عليه، كما فى قوله: - تعالى -:
{ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } ووعد الله - تعالى - لا يتخلف.
ثم بين - سبحانه - موقف المشركين من دعوته فقال: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ }..
روى الضحاك عن ابن عباس قال: لما بعث الله - تعالى - رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، وقالوا الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد، فأنزل الله - تعالى -: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً... الآية }.
والهمزة فى قوله "أكان" لإِنكار تعجبهم، ولتعجب السامعين منه لوقوعه فى غير موضعه.
وقوله { لِلنَّاسِ } جار ومجرور حالا من قوله { عَجَباً } والمراد بهم مشركو مكة ومن لف لفهم فى إنكار ما جاء به النبى - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله: { عَجَباً } خبر كان، والعجب والتعجيب - استعظام أمر خفى سببه.
وقوله: { أَنْ أَوْحَيْنَآ } فى تأويل مصدر أى: إيحاؤنا، وهو اسم كان. والوحى: الإِعلام فى خفاء، والمقصود به ما أوحاه الله - تعالى - إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - من قرآن وغيره.
وقوله: { إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ } أى إلى بشر من جنسهم يعرفهم ويعرفونه.
وقوله: { أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ } الإِنذار إخبار معه تخويف فى مدة تتسع التحفظ من المخوف منه، فإن لم تتسع له فهو إعلام وإشعار لا إنذار، وأكثر ما يستعمل فى القرآن فى التخويف من عذاب الله - تعالى - :
والمراد بالناس هنا: جميع الذين يمكنه - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغهم دعوته.
وقوله: { وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ } البشارة: إخبار معه ما يسر فهو أخص من الخبر، سمى بذلك لأن أثره يظهر على البشرة التى هى ظاهر الجلد.
وقوله: { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } أى أن لهم سابقة ومنزلة رفيعة عند ربهم.
وأصل القدم العضو المخصوص. وأطلقت على السبق، لكونها سببه وآلته، فسمى المسبب باسم السبب من باب المجاز المرسل، كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد.
وأصل الصدق أن يكون فى الأقوال، ويستعمل أحيانا فى الأفعال فيقال: فلان صدق فى القتال، إذا وفاه حقه، فيعبر بصفة الصدق عن كل فعل فاضل.
وإضافة القدم إلى الصدق من إضافة الموصوف إلى الصفة كقولهم: مسجد الجامع، والأصل قدم صدق. أى محققة مقررة. وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق. ثم جعل الصدق كأنه صاحبها.
ويجوز أن تكون إضافة القدم إلى الصدق من باب إضافة المسبب إلى السبب، وفى ذلك تنبيه إلى أن ما نالوه من منازل رفيعة عند ربهم. إنما هو بسبب صدقهم فى أقوالهم وأفعالهم ونياتهم.
قال الإِمام ابن جرير ما ملخصه: واختلف أهل التأويل فى معنى قوله: { قَدَمَ صِدْقٍ } فقال بعضهم معناه: أن لهم أجرا حسنا بسبب ما قدموه من عمل صالح..
وقال آخرون معناه: أن لهم سابق صدق فى اللوح المحفوظ من السعادة.
وقال آخرون: معنى ذلك أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - شفيع لهم.
ثم قال: وأولى هذه الأقوال عندى بالصواب قول من قال معناه: أن لهم أعمالا صالحة عند الله يستحقون بها منه الثواب، وذلك أنه محكى عن العرب قولهم: هؤلاء أهل القدم فى الإِسلام. أى هؤلاء الذين قدموا فيه خيرا، فكان لهم فيه تقديم.
ويقال: لفلان عندى قدم صدق وقدم سوء، وذلك بسبب ما قدم إليه من خير أو شر، ومنه قول حسان بن ثابت - رضى الله عنه -:

لنا القدم العليا إليك وخلفنالأولنا فى طاعة الله تابع

ومعنى الآية الكريمة: أبلغ الجهل وسوء التفكير بمشركى مكة ومن على شاكلتهم، أن كان إيحاؤنا إلى رجل منهم يعرفهم ويعرفونه لكى يبلغهم الدين الحق، أمرا عجبا، يدعوهم إلى الدهشة والاستهزاء بالموحى إليه - صلى الله عليه وسلم - حتى لكأن النبوة فى زعمهم تتنافى مع البشرية.
إن الذى يدعو إلى العجب حقا هو ما تعجبوا منه، لأن الله - تعالى - اقتضت حكمته أن يجعل رسله إلى الناس من البشر، لأن كل جنس يأنس لجنسه، وينفر من غيره، وهو - سبحانه - أعلم حيث يجعل رسالته.
قال صاحب الكشاف: "فإن قلت: فما معنى اللام فى قوله { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً } وما الفرق بينه وبين قولك: كان عند الناس عجبا؟
قلت: معناه أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها. ونصبوه علما لهم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم، وليس فى "عند الناس" هذا المعنى.
والذى تعجبوا منه أن يوحى إلى بشر. وأن يكون رجلا من أفناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم، فقد كانوا يقولون: العجب أن الله لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبى طالب. وأن يذكر لهم البعث. وينذر بالنار ويبشر بالجنة. وكل واحد من هذه الأمور ليس بعجب، لأن الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلا بشر مثلهم.
وقال الله - تعالى -:
{ قُل لَوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ مَلاۤئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً } وإرسال الفقير أو اليتيم ليس بعجب - أيضاً - لأن الله - تعالى - إنما يختار من استحق الاختيار لجمعه أسباب الاستقلال لما ختير له من النبوة. والغنى والتقدم فى الدنيا ليس من تلك الأسباب فى شىء قال - تعالى -: { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ } والبعث للجزاء على الخير والشر. هو الحكمة العظمى فكيف يكون عجبا إنما العجب والمنكر فى العقول، تعطيل الجزاء.
وقدم - سبحانه - خبر كان وهو { عَجَباً } على اسمها وهو { أَنْ أَوْحَيْنَآ }. لأن المقصود بالإِنكار فى الآية إنما هو تعجبهم ودهشتهم من أن يكون الرسول بشراً.
وقدم - سبحانه - الإِنذار على التبشير، لأن التخلية مقدمة على التحلية، وإزالة مالا ينبغى مقدم فى الرتبة على فعل ما ينبغى.
ولم ذكر المنذر به، لتهويله وتعميمه حتى يزداد خوفهم وإقبالهم على الدين الحق، الذى يؤدى اتباعه إلى النجاة من العذاب.
وخص التبشير بالمؤمنين لأنهم وحدهم المستحقون له، بخلاف الإِنذار فإنه يشمل المؤمن والكافر. ولذا قال - سبحانه - { أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ } أى جميع الناس.
وذكر - سبحانه - فى جانب التبشير المبشر به - وهو حصولهم على المنزلة الرفيعة عند ربهم - لكى تقوى رغبتهم فى طاعته. ومحبتهم لعبادته، وبذلك ينالون ما بشرهم به. ثم وضح - سبحانه - ما قاله الكافرون عند مجىء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدعوته فقال: { قَالَ ٱلْكَافِرُونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ }.
أى: قال الكافرون المتعجبون من أن يكون - صلى الله عليه وسلم - رسولا إليهم، إن هذا الإِنسان الذى يدعى النبوة لساحر بيِّن السحر واضحه . حيث إنه استطاع بقوة تأثيره فى النفوس أن يفرق بين الابن وأبيه، والأخ وأخيه.
وعلى هذا القراءة التى وردت عن ابن كثير والكوفيين تكون الإِشارة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وقرأ الباقون: { إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } أى: إن هذا القرآن لسحر واضح، لأنه خارق للعادة فى جذبه النفوس إلى الإِيمان بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -.
قال أبو حيان ما ملخصه: "ولما كان قولهم فيما لا يمكن أن يكون سحرا ظاهر الفساد، لم يحتج إلى جواب، لأنهم يعلمون نشأته معهم بمكة، وخلطتهم له، - وأنه لا علم له بالسحر - وقد أتاهم بعد بعثته بكتاب إلهى مشتمل على مصالح الدنيا والآخرة مع الفصاحة والبلاغة التى أعجزتهم..
وقولهم هذا؛ هو دين الكفرة مع أنبيائهم. فقد قال فرعون وقومه فى موسى - عليه السلام -
{ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } وقال قوم عيسى فيه عندما جاءهم بالبينات { هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } ودعوى السحر إنما هو على سبيل العناد والجحد.
وقال الآلوسى "وفى قولهم هذا اعتراف منهم بأن ما عاينوه خارج عن طوق البشر، نازل من حضرة خلاق القوى والقدر، ولكنهم يسمونه سحرا تماديا فى العناد، كما هو شنشنة المكابر اللجوج، وشنشنة المفحم المحجوج".
وجاءت الجملة الكريمة بدون حرف عطف، لكونها استئنافا مبنيا على سؤال مقدر، فكأنه قيل: فماذا قالوا بعد هذا التعجب؟ فكان الجواب: { قَالَ ٱلْكَافِرُونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ }.
ويرى الإِمام ابن جرير أن الآية فيها كلام محذوف، فقد قال: -رحمه الله - : "وفى الكلام حذف استغنى بدلالة ما ذكر عما ترك ذكره، وتأويل الكلام: أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم، فلما أتاهم بوحى الله وتلاه عليهم وبشرهم وأنذرهم قال المنكرون لتوحيد الله ورسالة رسوله إن هذا الذى جاءنا به محمد - صلى الله عليه وسلم - لسحر مبين".
وقد اشتملت جملة { إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } على جملة من المؤكدات، للإِشارة إلى رسوخهم فى الكفر، وإلى أنهم مع وضوح الأدلة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يزدادوا إلا جحودا وعنادا، وصدق الله إذ يقول:
{ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } ثم ساق - سبحانه - من مظاهر قدرته، ما يبطل تعجبهم فقال - تعالى - :
{ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ... }