التفاسير

< >
عرض

أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٦٢
ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
٦٣
لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
٦٤
وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ ٱلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٦٥
أَلاۤ إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰت وَمَنْ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُرَكَآءَ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ
٦٦
هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
٦٧
قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰت وَمَا فِي ٱلأَرْضِ إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَـٰذَآ أَتقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٦٨
قُلْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ
٦٩
مَتَاعٌ فِي ٱلدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ ٱلْعَذَابَ ٱلشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ
٧٠
-يونس

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والأولياء: جمع ولى مأخوذ من الولى بمعنى القرب والدنو، يقال: تباعد فلان من بعد ولى أى: بعد قرب.
والمراد بهم: أولئك المؤمنون الصادقون الذى صلحت أعمالهم، وحسنت بالله - تعالى - صلتهم، فصاروا يقولون ويفعلون كل ما يحبه، ويجتنبون كل ما يكرهه.
قال الفخر الرازى: "ظهر فى علم الاشتقاق أن تركيب الواو واللام والياء يدل على معنى القرب، فولى كل شىء هو الذى يكون قريبا منه.
والقرب من الله إنما يتم إذا كان القلب مستغرقاً فى نور معرفته، فإن رأى رأى دلائل قدرته، وإن سمع سمع آيات وحدانيته، وإن نطق نطق بالثناء عليه، وِإن تحرك تحرك فى خدمته، وإن اجتهد اجتهد فى طاعته، فهنالك يكون فى غاية القرب من الله - تعالى - ويكون وليا له - سبحانه -.
وإذا كان كذلك كان الله - وليا له - أيضاً - كما قال:
{ ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } وقد افتتحت الآية الكريمة بأداة الاستفتاح { ألا } وبحرف التوكيد { إن } لتنبيه الناس إلى وجوب الاقتداء بهم، حتى ينالوا ما ناله أولئك الأولياء الصالحون من سعادة دنيوية وأخروية.
وقوله: { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } تمييز لهم عن غيرهم ممن لم يبلغوا درجتهم.
والخوف: حالة نفسية تجعل الإِنسان مضطرب المشاعر لتوقعه حصول ما يكرهه.
والحزن اكتئاب نفسى يحدث للإِنسان من أجل وقوع ما يكرهه.
أى: أن الخوف يكون من أجل مكروه يتوقع حصوله، بينما الحزن يكون من أجل مكروه قد وقع فعلاً.
والمعنى: ألا إن أولياء الله الذين صدق إيمانهم، وحسن عملهم، لا خوف علهيم من أهوال الموقف وعذاب الآخرة، ولا هم يحزنون على ما تركوا وراءهم من الدنيا، لأن مقصدهم الأسمى رضا الله - سبحانه -، فمتى فعلوا ما يؤدى إلى ذلك هان كل ما سواه.
وقوله: { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } استئناف مسوق لتوضيح حقيقتهم فكأن سائلا قال: ومن هم أولياء الله؟ فكان الجواب هم الذين توفر فيهم الإِيمان الصادق، والبعد التام عن كل ما نهى الله - تعالى - عنه.
وعبر عن إيمانهم بالفعل الماضى، للإِشارة إلى أنه إيمان ثابت راسخ. لا تزلزله الشكوك، ولا تؤثر فيه الشبهات.
وعبر عن تقواهم بالفعل الدال على الحال والاستقبال للإِيذان بأن اتقاءهم وابتعادهم عن كل ما يغضب الله من الأقوال والأفعال، يتجدد ويستمر دون أن يصرفهم عن تقواهم وخوفهم منه - سبحانه - ترغيب أو ترهيب.
وقوله - سبحانه - { لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وفِي ٱلآخِرَةِ } زيادة تكريم وتشريف لهم.
والبشرى والبشارة: الخبر السار، فهو أخص من الخبر، وسمى بذلك لأن أثره يظهر على البشرة وهى ظاهر جلد الإِنسان، فيجعله متهلل الوجه، منبسط الأسارير، مبتهج النفس.
أى: لهم ما يسرهم ويسعدهم فى الدنيا من حياة آمنة طيبة، ولهم - أيضاً - فى الآخرة ما يسرهم من فوز برضوان الله، ومن دخول جنته.
قال الآلوسى ما ملخصه: "والثابت فى أكثر الروايات، أن البشرى فى الحياة الدنيا، هى الرؤيا الصالحة.. فقد أخرج الطيالسى وأحمد الدارمى والترمذى.. وغيرهم عن عبادة بن الصامت قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله - تعالى - { لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا } فقال: "هى الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له".
وقيل المراد بالبشرى: البشرى العاجلة نحو النصر والغنيمة والثناء الحسن، والذكر الجميل، ومحبة الناس، وغير ذلك.
ثم قال: وأنت تعلم أنه لا ينبغى العدول عما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى تفسير ذلك إذا صح. وحيث عدل من عدل لعدم وقوفه على ذلك فيما أظن، فالأولى أن تحمل البشرى فى الدارين على البشارة بما يحقق نفى الخوف والحزن كائناً ما كان..."
وقوله: { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ } أى: لا تغيير ولا خلف لأقوال الله - تعالى - ولا لما وعد به عباده الصالحين من وعود حسنة، على رأسها هذه البشرى التى تسعدهم فى الحياة الدنيا وفى الآخرة.
واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - { ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } يعود إلى ما ذكر من البشرى فى الدارين.
أى: ذلك المذكور من أن لهم البشرى فى الحياة الدنيا وفى الآخرة، هو الفوز العظيم الذى لا فوز وراءه، والذى لا يفوته نجاح أو فضل.
هذا، وقد نقل الشيخ القاسمى -رحمه الله - كلاما حسنا من كتاب "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" فقال ما ملخصه:
هذه الآيات أصل فى بيان أولياء الله، وقد بين - سبحانه - فى كتابه، وبين رسوله فى سنته أن لله أولياء من الناس، كما أن للشيطان أولياء.
وإذا عرف أن الناس فيهم أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان، فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء، كما فرق الله ورسوله بينهما، فأولياء الله هم المؤمنون المتقون. كما فى هذه الآية، وفى الحديث الصحيح: "من عادى لى وليا فقد بارزنى بالمحاربة، أو فقد آذنته بالحرب..."
والولاية ضد العداوة، وأصل الولاية المحبة والقرب، وأصل العداوة البغض والبعد، وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه، وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم، وأفضلهم محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين.. فلا يكون وليا إلا من آمن به واتبعه، ومن خالفه كان من أولياء الشيطان...
وإذا كان أولياء الله هم المؤمنون المتقون، فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله - تعالى - فمن كان أكمل إيماناً وتقوى، كان أكمل ولاية لله. فالناس متفاضلون فى ولاية الله - عز وجل - بحسب تفاضلهم فى الإِيمان والتقوى.
ومن أظهر الولاية وهو لا يؤدى الفرائض، ولا يجتنب المحارم، كان كاذباً فى دعواه، أو كان مجنوناً.
وليس لأولياء الله شىء يتميزون به عن الناس فى الظاهر من الأمور المباحات، فلا يتميزون بلباس دون لباس، ولا بحلق شعر أو تقصير.. بل يوجدون فى جميع طبقات الأمة. فيوجدون فى أهل القرآن، وأهل العلم، وفى أهل الجهاد والسيف، وفى التجار والزراع والصناع...
وليس من شرط الولى أن يكون معصوماً لا يغلط ولا يخطئ، بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين.."
وبعد أن بين - سبحانه - ما عليه أولياؤه من سعادة دنيوية وأخروية، أتبع ذلك بتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عما لقيه من أعدائه من أذى فقال: { وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ ٱلْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ }.
أى: ولا يحزنك يا محمد ما قاله أعداؤك فى شأنك، من أنك ساحر أو مجنون، لأن قولهم هذا إنما هو من باب حسدهم لك، وجحودهم لدعوتك.
والنهى عن الحزن - وهو أمر نفسى لا اختيار للإِنسان فيه - المراد به هنا النهى عن لوازمه، كالإِكثار من محاولة تجديد شأن المصائب، وتعظيم أمرها، وبذلك تتجدد الآلام، ويصعب نسيانها.
وفى هذه الجملة الكريمة تسلية له - صلى الله عليه وسلم- وتأنيس لقلبه، وإرشاد له إلى ما سيقع له من أعدائه من شرور، حتى لا يتأثر بها عند وقوعها.
وقوله: { إِنَّ ٱلْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } تعليل للنهى على طريقة الاستئناف، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - قد قال: وما لى لا أحزن وهم قد كذبوا دعوتى؟ فكان الجواب: إن الغلبة كلها، والقوة كلها لله وحده لا لغيره، فهو - سبحانه - القدير على أن يغلبهم ويقهرهم ويعصمك منهم، وهو { السميع }، لأقوالهم الباطلة، { العليم } بأفعالهم القبيحة، وسيعاقبهم على ذلك يوم القيامة عقاباً أليماً.
ولا تعارض بين قوله - سبحانه - { إِنَّ ٱلْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } وبين قوله فى آية أخرى
{ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } لأن كل عزة لغيره - سبحانه - فهى مستمدة من عزته، وكل قوة من تأييده وعونه، والرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون، إنما صاروا أعزاء بفضل ركونهم إلى عزة الله - تعالى - وإلى الاعتماد عليه، وقد أظهرها - سبحانه - على أيديهم تكريماً لهم.
ولذا قال القرطبى -رحمه الله - قوله: { إِنَّ ٱلْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } أى: القوة الكاملة، والغلبة الشاملة، والقدرة التامة لله وحده، فهو ناصرك ومعينك ومانعك. و { جميعاً } نصب على الحال، ولا يعارض هذا قوله:
{ وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } فإن كل عزة بالله فهى كلها لله، قال - سبحانه - { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } ثم قال - تعالى - { أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَن فِي ٱلسَّمَاوَات وَمَنْ فِي ٱلأَرْضِ } أى: ألا إن لله وحده ملك جميع من فى السماوات ومن فى الأرض من إنس وجن وملائكة.
وجاء التعبير القرآنى هنا بلفظ { من } الشائع فى العقلاء، للإِيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بغيرهم، لأنهم إذا كانوا مع شرفهم وعلو منزلتهم مملوكين لله - تعالى - كان غيرهم ممن لا يعقل أولى بذلك.
قال صاحب الكشاف قوله: { أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَن فِي ٱلسَّمَاوَات وَمَنْ فِي ٱلأَرْضِ } يعنى العقلاء المميزين وهم الملائكة والثقلان، وإنما خصهم بالذكر ليؤذن أن هؤلاء إذا كانوا له وفى ملكه، فهم عبيد كلهم، وهو - سبحانه - ربهم، ولا يصلح أحد منهم للربوبية، ولا أن يكون شريكاً له فيها، فما وراءهم مما لا يعقل أحق أن لا يكون له ندا وشريكاً، وليدل على أن من اتخذ غيره ربا من ملك أو إنس، فضلاً عن صنم أو غير ذلك، فهو مبطل تابع لما أدى إليه التقليد وترك النظر".
وقوله: { وَمَا يَتَّبِعُ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ شُرَكَآءَ }.
أى: وما يتبع هؤلاء المشركون فى عبادتهم لغير الله شركاء فى الحقيقة، وإنما يتبعون أشياء أخرى سموها من عند أنفسهم شركاء جهلا منهم، لأن الله - تعالى - تنزه وتقدس عن أن يكون له شريك أو شركاء فى ملكه أو فى عبادته.
وعلى هذا التفسير تكون { ما } فى قوله { وَمَا يَتَّبِعُ } نافية، وقوله { شُرَكَآءَ } مفعول يتبع، ومفعول يدعون محذوف لدلالة ما قبله عليه، أى: وما يتبع الين يدعون من دون الله آلهة شركاء.
ويجوز أن تكون { ما } استفهامية منصوبة بقوله { يتبع }، ويكون قوله { شُرَكَآءَ } منصوب بقوله { يَدْعُونَ } وعليه يكون المعنى.
أى شىء يتبع هؤلاء المشركون فى عبادتهم؟ إنهم يعبدون شركاء سموهم بهذا الاسم من عند أنفسهم، أما هم فى الحقيقة فلا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا.
وقوله: { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } أى: ما يتبعون فى عبادتهم لغير الله إلا الظن الذى لا يغنى عن الحق شيئاً، وإلا الخرص المبنى على الوهم الكاذب، والتقدير الباطل.
وأصل الخرص: الحزر والتقدير للشىء على سبيل الظن لا على سبيل الحقيقة.
قال الراغب: وحقيقة ذلك أن كل قول مقول عن ظن وتخمين يقال له خرص، سواء أكان مطابقاً للشىء أو مخالفاً له، من حيث إن صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظن ولا سماع، بل اعتمد فيه على الظن والتخمين كفعل الخارص فى خرصه - أى: كفعل من يخرص الثمرعلى الشجر - وكل من قال قولاً على هذا النحو قد يسمى كاذباً وإن كان قوله مطابقاً للمقول المخبر عنه.
وقيل: الخرص: الكذب كما فى قوله - تعالى - { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } أى يكذبون.
ثم بين - سبحانه - جانباً من مظاهر نعمه على عباده فقال - تعالى - { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِراً... }
أى: الله وحده - سبحانه - هو الذى جعل لكم الليل مظلماً، لكى تستقروا فيه بعد طول الحركة فى نهاركم من أجل معاشكم، وهو الذى جعل لكم النهار مضيئا لكى تبصروا فيه مطالب حياتكم.
والجملة الكريمة بيان لمظاهر رحمة الله - تعالى - بعباده، بعد بيان سعة علمه، ونفاذ قدرته، وشمولها لكل شىء فى هذا الكون.
وقوله: { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أى: إن فى ذلك الجعل المذكور لدلائل واضحات لقوم يسمعون ما يتلى عليهم سماع تدبر وتعقل، يدل على سعة رحمة الله - تعالى - بعباده، وتفضله عليهم بالنعم التى لا تحصى.
ثم شرع - سبحانه - فى بيان أقبح الرذائل التى تفوه بها المشركون فقال: { قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً... }
والمراد بهؤلاء القائلين: اليهود الذين قالوا: عزير ابن الله - والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله، وكفار العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله، وغيرهم ممن نحا نحوهم فى تلك الأقوال الشائنة.
وقوله: { سُبْحَانَهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَات وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } تنزيه له - عز وجل - عما قالوا، فى حقه من أقاويل باطلة.
أى: تنزه وتقدس عن أن يكون له ولد، لأنه هو الغنى بذاته عن الولد وعن كل شىء، وهو المالك لجميع الكائنات علويها وسفليها، وهو الذى لا يحتاج إلى غيره، وغيره محتاج إليه، وخاضع لسلطان قدراته.
قال - تعالى -:
{ وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً. وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً. إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً. لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَرْداً } وقوله: { إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَـٰذَآ } تجهيل لهم ورد عليهم. و { إن } هنا نافية، و { من } مؤكدة لهذا النفى، ومفيدة للعموم، والسلطان: الحجة والبرهان.
أى: ما عندكم دليل ولا شبهة دليل على ما زعمتوه من أن لله ولدا، وإنما قلتم ما قلتم لانطماس بصيرتكم، واستحواذ الشيطان على نفوسكم.
وقوله - سبحانه - { أَتقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } توبيخ آخر لهم على جهلهم وكذبهم.
أى: أتقولون على الله - تعالى - قولاً، لا علم لكم به، ولا معرفة لكم بحقيقته؟ إن قولكم هذا لهو دليل على جهلكم وعلى تعمدكم الكذب والبهتان.
قال الآلوسى: "وفى الآية دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة. وأن العقائد لا بد لها من قاطع، وأن التقليد بمعزل من الاهتداء".
وقوله: { قُلْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } إنذار لهم بسوء العاقبة إذا ما استمروا على شركهم.
أى: قل لهؤلاء المشركين على سبيل الإِنذار والتهديد: إن الذين يفترون على الله الكذب بنسبة الولد إليه، والشريك له، لا يفلحون ولا يفوزون بمطلوب أصلاً.
وقوله - سبحانه - { مَتَاعٌ فِي ٱلدُّنْيَا } بيان لتفاهة ما يحرصون عليه من شهوات الحياة الدنيا، وهو خبر لمبتدأ محذوف.
أى: أن ما يتمتعون به فى الدنيا من شهوات وملذات، هو متاع قليل مهما كثر، لأنه إلى فناء واندثار.
ثم بين - سبحانه - سوء مصيرهم بعد أن غرتهم الدنيا بشهواتها فقال: { ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ ٱلْعَذَابَ ٱلشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ }.
أى: ثم إلينا لا إلى غيرنا مرجعهم يوم القيامة، ثم نحاسبهم حساباً عسيراً على أقوالهم الذميمة، وأفعالهم القبيحة، ثم نذيقهم العذاب الشديد بسبب كفرهم بآياتنا، وتكذيبهم لنبينا - صلى الله عليه وسلم - .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة، قد مدحت أولياء الله الصالحين، وبشرتهم بالسعادة الدنيوية والأخروية، وأقامت الأدلة على قدرة الله النافذة ورحمته الواسعة، وردت على افتراءات المشركين بما يبطل أقوالهم، ويفضح مزاعمهم.
وبعد أن ساقت السورة الكريمة ما ساقت من الأدلة على وحدانية الله وعلى صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة المكذبين.. بعد كل ذلك تحدثت عن بعض قصص الأنبياء مع أقوامهم، فبدأت بجانب من قصة نوح - عليه السلام - مع قومه، وكيف أن الله - تعالى - أغرقهم بعد أن تمادوا فى ضلالهم، فقال - سبحانه - :
{ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ... }.