التفاسير

< >
عرض

وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ ٱقْضُوۤاْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ
٧١
فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
٧٢
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُنْذَرِينَ
٧٣
-يونس

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام الرازى: "اعلم أنه - سبحانه - لما بالغ فى تقرير الدلائل والبينات وفى الجواب عن الشبه والسؤالات، شرع بعد ذلك فى بيان بعض قصص الأنبياء - عليهم السلام - لوجوه:
أحدها: أن الكلام إذا طال فى تقرير نوع من أنواع العلوم، فربما حصل نوع من أنواع الملالة، فإذا انتقل الإِنسان من ذلك الفن من العلم إلى فن آخر، انشرح صدره، ووجد فى نفسه رغبة جديدة.
وثانيها: ليكون للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه، أسوة بمن سلف من الأنبياء، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا سمع أن معاملة الكفار لأنبيائهم سيئة.. خف ذلك على قلبه، لأن المصيبة إذا عمت خفت.
وثالثها: أن الكفار إذا سمعوا هذه القصص، وعلموا أن العاقبة للمتقين كان ذلك سببا فى انكسار قلوبهم، ووقوع الخوف والوجل فى نفوسهم. وحينئذ يقلعون عن أنواع الإِيذاء والسفاهة...".
ونوح - عليه السلام -: واحد من أولى العزم من الرسل، وينتهى نسبه إلى شيث بن آدم - عليه السلام - وقد ذكر فى القرآن فى ثلاثة وأربعين موضعا.
وكان قومه يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم نوحاً ليدلهم على طريق الرشاد.
وقد تكررت قصته مع قومه فى سورة الأعراف، وهود، والمؤمنون، ونوح.. بصورة أكثر تفضيلاً.
أما هنا فى سورة يونس فقد جاءت بصورة مجملة، لأن الغرض منها هنا، إبراز جانب التحدى من نوع لقومه، بعد أن مكث فيهم زماناً طويلاً، يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة غيره.
والمعنى: واتل - يا محمد - على مسامع هؤلاء المشركين الذين مردوا على افتراء الكذب، نبأ نوح - عليه السلام - مع قومه المغترين بأموالهم وكثرتهم ليتدبروا ما فى هذا النبأ من عظات وعبر. وليعلموا أن سنة الله - تعالى - قد اقتضت أن يجعل العاقبة للمتقين.
والمقصود من هذه التلاوة، دعوة مشركى مكة وأمثالهم، إلى التدبر فيما جرى للظالمين من قبلهم، لعلهم بسبب هذا التدبر والتأمل يثوبون إلى رشدهم ويتبعون الدين الحق الذى جاءهم به نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله: { يٰقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ.. } بيان لما قاله لهم بعد أن مكث فيهم زمنا طويلا،، وسمع منهم ما سمع من استهزاء بدعوته،، وتطاول على أتباعه.
أى: قال نوح لقومه بعد أن دعاهم ليلا ونهارا: يا قوم إن كان { كَبُرَ عَلَيْكُمْ }.
أى: شق وعظم عليكم { مَّقَامِي } فيكم ووجودى بين أظهركم عمرا طويلا { وَتَذْكِيرِي } إياكم بآيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته،، والتى تستلزم منكم إخلاص العبادة له والشكر لنعمه.
إن كان كبر عليكم ذلك فعلى الله وحده توكلت، وإليه وحده فوضت أمرى ولن يصرفنى عن الاستمرار فى تبليغ ما أمرنى بتبليغه وعد أو وعيد منكم.
وخاطبهم - عليه السلام - بقوله: { يٰقَوْمِ } استمالة لقلوبهم، وإشعار لهم بأنهم أهله وأقرباؤه الذين يحب لهم الخير، ويكره لهم الشر.
وجملة { فَعَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْتُ } جواب الشرط. وقيل جواب الشرط محذوف والتقدير: إن كان كبر عليكم ذلك فافعلوا ما شئتم فإنى على الله وحده توكلت فى تبليغ دعوته لكم.
وقوله: { فَأَجْمِعُوۤاْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } معطوف على ما قبله.
والفعل { أجمعوا } بقطع الهمزة مأخوذ من أجمعت على الأمر إذا عزمت عليه عزما مؤكدا ووطنت نفسك على المضى فيه بدون تردد أو تقاعس.
والمراد بالأمر هنا: المكر والكيد والعداوة وما يشبه ذلك.
والمراد بشركائهم: أصنامهم التى عبدوها من دون الله وظنوا فيها النفع والضرر والتمسوا فيها العون والنصرة.
والمعنى: أن نوحا - عليه السلام - قد قال لقومه بصراحة ووضوح: يا قوم إن كان قد شق عليكم مقامى فيكم، وتذكيرى بآيات الله الدالة على وحدانيته فأجمعوا ما تريدون جمعه من مكر وكيد بى، ثم ادعوا شركاءكم ليساعدوكم فى ذلك فإنى ماض فى طريقى الذى أمرنى الله به، بدون مبالاة بمكركم وبدون اهتمام بكيدكم.
قال الآلوسى: "وقوله { وَشُرَكَآءَكُمْ } منصوب على أنه مفعول معه لأن الشركاء عازمون لا معزوم عليهم. وقيل إنه منصوب بالعطف على قوله { أَمْرَكُمْ } بحذف المضاف أى فأجمعوا أمركم وأمر شركائكم.
وقرأ نافع: فاجمعوا بوصل الهمزة وفتح الميم من جمع وعطف الشركاء على الأمر فى هذه القراءة ظاهر بناء على أنه يقال: جمعت شركائى، كما يقال جمعت أمرى..."
وقوله: { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } معطوف على ما قبله، ومؤكد لمضمونه.
وكلمة { غُمَّةً } بمعنى الستر والخفاء. يقال: غم على فلان الأمر أى: خفى عليه واستتر.
ومنه الحديث الشريف:
"صوموا لرؤيته - أى الهلال - وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما"
أى فإن استتر وخفى عليكم الهلال وحال دون رؤيتكم له حائل من غيم أو ضباب فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما.
أى: أجمعوا ما تريدون جمعه لى من مكر وكيد واستعينوا على ذلك بشركائكم ثم لا يكن أمركم، الذى أجمعتم على تنفيذه فيه شىء من الستر أو الخفاء أو الالتباس الذى يجعلكم مترددين فى المضى فيه أو متقاعسين عن مجاهرتى بما تريدون فعله معى.
ومنهم من يرى أن كلمة { غُمَّةً } هنا بمعنى الغم كالكربة بمعنى الكرب أى: ثم لا يكن حالكم غما كائنا عليكم بسبب مقامى فيكم وتذكيرى إياكم بآيات الله.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذين الوجهين فقال: "فإن قلت: ما معنى الأمرين: أمرهم الذى يجمعونه وأمرهم الذى لا يكون عليهم غمة؟
قلت: أما الأمر الأول فالقصد إلى إهلاكه يعنى: فاجمعوا ما تريدون من إهلاكى واحتشدوا فيه، وابذلوا وسعكم فى كيدى. وإنما قال ذلك إظهارا لقلة مبالاته بهم وثقته بما وعده به ربه من كلاءته وعصمته إياه، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلا.
وأما الثانى ففيه وجهان: أحدهما أن يراد مصاحبتهم له وما كانوا فيه معه من الحال الشديدة عليهم، المكروهة عندهم. يعنى: ثم أهلكونى لئلا يكون عيشكم بسببى غصة عليكم. وحالكم عليكم غمة. أى: غما وهما. والغم والغمة كالكرب والكربة.
وثانيهما: أن يراد به ما أريد بالأمر الأول. والغمة السترة من غمة إذا ستره، وفى الحديث
"لا غمة في فرائض الله" أى لا تستر ولكن يجاهر بها.
يعنى: ولا يكن قصدكم إلى إهلاكى مستورا عليكم. ولكن مكشوفا مشهورا تجاهروننى به".
وقوله: { ثُمَّ ٱقْضُوۤاْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ } زيادة فى تحديهم وإثارتهم.
والقضاء هنا بمعنى الأداء، من قولهم: قضى المدين للدائن دينه، إذا أداه إليه، وقضى فلان الصلاة. أى أداها بعد مضى وقتها.
أى: ثم أدوا إلى ذلك الامر الذى تريدون أداءه من إيذائى أو إهلاكى بدون إنظار أو إمهال.
ويصح أن يكون القضاء هنا بمعنى الحكم، أى: ثم احكموا على بما تريدون من أحكام، ولا تتركوا لى مهلة فى تنفيذها، بل نفذوها على فى الحال.
فأنت ترى فى هذه الآية الكريمة كيف أن نوحا - عليه السلام - كان فى نهاية الشجاعة فى مخاطبته لقومه، بعد أن مكث فيهم مكث وهو يدعوهم إلى عبادة الله - تعالى - وحده.
فهو - أولا - يصارحهم بأنه ماض فى طريقه الذى أمره الله بالمضى فيه، وهو تذكيرهم بالدلائل الدالة على وحدانية الله، وعلى وجوب إخلاص العبادة له سواء أشق عليهم هذا التذكير أم لم يشق، وأنه لا اعتماد له على أحد إلا على الله وحده.
وهو - ثانيا - يتحداهم بأن يجمعوا أمرهم وأمر شركائهم وأن يأخذوا أهبتهم لكيده وحربه.
وهو - ثالثا - يطالبهم بأن يتخذوا قراراتهم بدون تستر أو خفاء، فإن الأمر لا يحتاج إلى غموض أو تردد، لأن حاله معهم قد أصبح واضحا وصريحا.
وهو - رابعا - يأمرهم بأن يبلغوه ما توصلوا إليه من قرارات وأحكام وأن ينفذوها عليه بدون تريث أو انتظار، حتى لا يتركوا له فرصة للاستعداد للنجاة من مكرهم.
وهكذا نرى نوحا - عليه السلام - يتحدى قومه تحديا صريحا مثيرا. حتى إنه ليغريهم بنفسه، ويفتح لهم الطريق لإِيذائه وإهلاكه - إن استطاعوا ذلك -.
وما لجأ - عليه السلام - إلى هذا التحدى الواضح المثير إلا لأنه كان معتمدا على الله - تعالى - الذى تتضاءل أمام قوته كل قوة وتتهاوا إزاء سطوته كل سطوة ويتصاغر كل تدبير وتقدير أمام تدبيره وتقديره.
وهكذا نرى القرآن الكريم يسوق للدعاة فى كل زمان تلك المواقف المشرفة لرسل الله - عليهم الصلاة والسلام - لكى يقتدوا بهم فى شجاعتهم، وفى اعتمادهم على الله وحده، وفى ثباتهم أمام الباطل مهما بلغت قوته، واشتد جبروته.
ومتى فعلوا ذلك، كانت العاقبة لهم لأنه - سبحانه - تعهد أن ينصر من ينصره.
ولنمض مع القصة حتى النهاية لنرى الدليل على ذلك فقد حكى - سبحانه - ما دار بين نوح وبين قومه بعد هذا التحدى السافر لهم فقال:
{ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } أى: فإن أعرضتم - أيها الناس - عن قولى، وعن تذكيرى إياكم بآيات الله بعد وقوفكم على أمرى وعلى حقيقة حالى. فما سألتكم من أجر، أى: فإنى ما سألتكم فى مقابل تذكيرى لكم، أو دعوتى إياكم إلى الحق، ومن أجر تؤدونه لى - { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ } وحده، فهو الذى يثيبنى على قولى وعملى وهو الذى يعطينى من الخير ما يغنينى عن أجركم وعطائكم وهو - سبحانه - الذى أمرنى { أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } أى: المنقادين لأمره. المتبعين لهديه، المستسلمين لقضائه وقدره.
ثم بين - سبحانه - العاقبة الطيبة التى آل إليها أمر نوح عليه السلام والعاقبة السيئة التى انتهى إليها حال قومه فقال: { فَكَذَّبُوهُ } أى: فكذب قوم نوح نبيهم نوحا بعد أن دعاهم إلى الحق ليلا ونهارا وسرا وعلانية.
فماذا كانت نتيجة هذا التكذيب؟ كانت نتيجته كما حكته السورة الكريمة { فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ } أى: فنجينا نوحا ومن معه من المؤمنين، بأن أمرناهم أن يركبوا فى السفينة التى صنعوها بأمر الله، حتى لا يغرقهم الطوفان الذى أغرق المكذبين.
وقوله: { وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ } أى: وجعلنا هؤلاء الناجين خلفاء فى الأرض لأولئك المغرقين الذين كذبوا نبيهم نوحا - عليه السلام - وعموا وصموا عن الحق الذى جاءهم به ودعاهم إليه.
هذه هى عاقبة نوح والمؤمنين معه أما عاقبة من كذبوه فقد بينها - سبحانه - فى قوله: { وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } أى: وأغرقنا بالطوفان الذين كذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا.
{ فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُنْذَرِينَ } أى: فانظر وتأمل - أيها العاقل - كيف كانت نتيجة تكذيب هؤلاء المنذرين الذين لم تنفع معهم النذر والآيات التى جاءهم بها نبيهم نوح - عليه السلام -.
فالمراد بالأمر بالنظر هنا: التأمل والاتعاظ والاعتبار لا مجرد النظر الخالى عن ذلك.
وهكذا نجد أن من العبر والعظات التى من أجلها ساق الله - تعالى - قصة نوح - عليه السلام - بهذه الصورة الموجزة هنا: إبراز ما كان عليه نوح - عليه السلام - من شجاعة وقوة وهو يبلغ رسالة الله إلى الناس، واعتماده التام على خالقه، وتوكله عليه وحده وتحديه السافر للمكذبين الذين وضعوا العراقيل والعقبات فى طريق دعوته، وتحريضه لهم بمثيرات القول على مهاجمته إن كان فى إمكانهم ذلك ومصارحته لهم بأنه فى غنى عن أموالهم لأن خالقه - سبحانه - قد أغناه عنهم، وبيان أن سنة الله لا تتخلف ولا تتبدل وهذه السنة تتمثل فى أنه - سبحانه - قد جعل حسن العاقبة للمؤمنين وسوء العاقبة للمكذبين.
ثم حكت السورة الكريمة أن الله - تعالى - قد أرسل رسلا كثيرين بعد نوح - عليه السلام - فكان موقف أقوامهم منهم مشابها لموقف قوم نوح منه، فقال - تعالى -:
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَىٰ قَوْمِهِمْ... }.