التفاسير

< >
عرض

وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّىٰ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
٩٠
آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ
٩١
فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ
٩٢
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ فَمَا ٱخْتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
٩٣
-يونس

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله سبحانه - { وَجَاوَزْنَا } هو من جاوز المكان، إذا قطعه وتخطاه وخلفه وراء ظهره وهو متعد بالباء إلى المفعول الأول الذى كان فاعلا فى الأصل، وإلى الثانى بنفسه.
والمراد بالبحر هنا: بحر القلزم، وهو المسمى الآن بالبحر الأحمر. وقوله { بَغْياً وَعَدْواً } أى ظلما واعتداء. يقال: بغى فلان على فلان بغيا، إذا تطاول عليه وظلمه. ويقال: عدا عليه عَدْواً وعدوانا إذا سلبه حقه.
وهما مصدران منصوبان على الحالية بتأويل اسم الفاعل. أى: باغين وعادين. أو على المفعولية لأجله أى: من أجل البغى والعدوان.
والمعنى: وجاوزنا ببنى إسرائيل البحر، وهم تحت رعايتنا وقدرتنا، حيث جعلناه لهم طريقا يبسا، فساروا فيه حتى بلغوا نهايته، فأتبعهم فرعون وجنوده لا لطلب الهداية والإِيمان، ولكن لطلب البغى والعدوان.
قال الآلوسى: "وذلك أن الله - تعالى - لما أخبر موسى وهارون - عليهما السلام - بإجابته دعوتهما، أمرهما بإخراج بنى إسرائيل من مصر ليلا، فخرجا بهم على حين غفلة من فرعون وملئه، فلما أحس بذلك، خرج هو وجنوده على أثرهم مسرعين، فالتفت القوم فإذا الطامة الكبرى وراءهم، فقالوا يا موسى، هذا فرعون وجنوده وراءنا. وهذا البحر أمامنا فكيف الخلاص، فأوحى الله - تعالى - إلى موسى، أن اضرب بعصاك البحر، فضربه فانلفق اثنى عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم، وصار لكل سبط طريق فسلكوا، ووصل فرعون ومن معه إلى الساحل وبنو إسرائيل قد خرجوا من البحر ومسلهكم باق على حاله، فسلكه فرعون وجنوده، فلما دخل آخرهم وهم أولهم بالخروج من البحر، انطبق عليهم وغشيهم من اليم ما غشيهم".
ثم حكى - سبحانه - ما قاله فرعون عندما نزل به قضاء الله الذى لا يرد فقال - تعالى -: { حَتَّىٰ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ }.
أى: لقد اتبع فرعون وجنوده بنى إسرائيل بغيا وعدوا، فانطبق عليه البحر، ولفه تحت أمواجه ولججه، حتى إذا أدركه الغرق وعاين الموت وأيقن أنه لا نجاة له منه، قال آمنت وصدقت. بأنه لا معبود بحق سوى الإِله الذى آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من القوم الذين أسلموا نفوسهم لله وحده وأخلصوها لطاعته.
ولما كان هذا القول قد جاء فى غير أوانه، وأن هذا الإِيمان لا ينفع لأنه جاء عند معاينة الموت، فقد رد الله - تعالى - على فرعون بقوله - سبحانه - { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ }.
أى: آلآن تدعى الإِيمان حين يئست من الحياة، وأيقنت بالموت، والحال أنك كنت قبل ذلك من العصاة المفسدين فى الأرض، المصرين على تكذيب الحق الذى جاءكم به رسولنا موسى - عليه السلام - والظرف "آلآن" متعلق بمحذوف متأخر، والاستفهام للتقريع والتوبيخ والإِنكار.
وقوله: { وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ } جملة حالية من فاعل الفعل المقدر، أى: آلآن تدعى الإِيمان والحال أنك عصيت قبل وكنت من المفسدين.
قال الإِمام ابن كثير: "وهذا الذى حكاه الله - تعالى - عن فرعون من قوله هذا فى حاله ذاك. من أسرار الغيب التى أعلم الله - تعالى - بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -،
ولهذا قال الإِمام أحمد بن حنبل -رحمه الله .
حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لما قال فرعون: آمنت أنه لا إله إلا الذى آمنت به بنو إسرائيل، قال جبريل لى يا محمد لو رأيتنى وقد أخذت حالا من حال البحر - أى طينا أسود من طين البحر - فدسسته فى فمه مخافة أن تناله الرحمة".
ورواه الترمذى، وابن جرير، وابن أبى حاتم فى تفاسيرهم، من حديث، حماد بن سلمة وقال الترمذى: حديث حسن.
ثم ساق ابن كثير بعد ذلك جملة من الأحاديث فى هذا المعنى".
وقوله - سبحانه -: { فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً.. } تهكم به، وتخييب لآماله، وقطع لدابر أطماعه، والمعنى إن دعواك الإِيمان الآن مرفوضة، لأنها جاءت فى غير وقتها، وإننا اليوم بعد أن حل بك الموت، نلقى بجسمك الذى خلا من الروح على مكان مرتفع من الأرض لتكون عبرة وعظة للأحياء الذين يعيشون من بعدك سواء أكانوا من بنى إسرائيل أم من غيرهم، حتى يعرف الجميع بالمشاهدة أو الإِخبار، سوء عاقبة المكذبين، وأن الألوهية لا تكون إلا لله الواحد الأحد، الفرد الصمد.
قال الإِمام الشوكانى: "قوله { فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ... } قرئ ننجيك بالتخفيف، والجمهور على التثقيل.
أى: نلقيك على نجوة من الأرض. وذلك ان بنى إسرائيل لم يصدقوا أن فرعون قد غرق، وقالوا: هو أعظم شأنا من ذلك، فألقاه الله على نجوة من الأرض أى مكان مرتفع من الأرض حتى شاهدوه.
ومعنى { ببدنك } بجسدك بعد سلب الروح منه. وقيل معناه بدرعك والدرع يسمى بدنا، ومنه قول كعب بن مالك:

ترى الأبدان فيها مسبغاتعلى الأبطال واليلب الحصينا

أراد بالأبدان الدروع - وباليلب - بفتح الياء واللام - الدروع اليمانية كانت تتخذ من الجلود.
وقوله: { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } تذييل قصد به دعوة الناس جميعا إلى التأمل والتدبر، والاعتبار بآيات الله، وبمظاهر قدرته.
أى: وإن كثيرا من الناس لغافلون عن آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا على إهلاك كل ظالم جبار.
قال ابن كثير: "وكان هلاك فرعون يوم عاشوراء. كما قال البخارى: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبى بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قدم النبى - صلى الله عليه وسلم - المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون. فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: أنتم أحق بموسى منهم فصوموه".
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك بعض مظاهر نعمه على بنى إسرائيل بعد أن أهلك عدوهم فرعون فقال - تعالى -: { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ }.
وقوله: { بَوَّأْنَا } أى: أنزلنا وأسكنا، من التبوء، وهو اتخاذ المباءة أى: المنزل والمسكن.
وفى إضافة ألمبوأ إلى الصدق مدح له، فقد جرت عادة العرب على أنهم إذا مدحوا شيئا أضافوه إلى الصدق فقالوا: رجل صدق إذا كان متحليا بمكارم الأخلاق.
قال الآلوسى: "والمراد بهذا المبوأ، كما رواه ابن المنذر وغيره عن الضحاك: الشام ومصر، فإن بنى إسرائيل الذين كانوا فى زمان موسى - عليه السلام - وهم المرادون هنا، ملكوا ذلك حسبما ذهب إليه جمع من الفضلاء.
وأخرج أبو الشيخ وغيره عن قتادة أن المراد به الشام وبيت المقدس، واختاره بعضهم، بناء على أن أولئك لم يعودوا إلى مصر بعد ذلك.
وينبغى أن يراد ببنى إسرائيل على القولين، ما يشمل ذريتهم بناء على أنهم ما دخلوا الشام فى حياة موسى - عليه السلام - إنما دخلها أبناؤهم - بقيادة يوشع بن نون.
وقيل المراد به أطراف المدينة إلى جهة الشام، وببنى إسرائيل؛ الذين كانوا على عهد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
والمعنى: ولقد أنزلنا بنى إسرائيل بعد هلاك عدوهم فرعون منزلا صالحا مرضيا، فيه الأمان، والأطمئنان لهم، وأعطيناهم فوق ذلك الكثير من ألوان المأكولات والمشروبات الطيبات التى أحللناها لهم.
وقوله: { فَمَا ٱخْتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ... } توبيخ لهم على موقفهم الجحودى من هذه النعم التى أنعم الله بها عليهم.
أى: أنهم ما تفرقوا فى أمور دينهم ودنياهم على مذاهب شتى، إلا من بعد ما جاءهم العلم الحاسم لكل شبهة، وهو ما بين أيديهم من الوحى الذى أمرهم الله - تعالى - أن يتلوه حق تلاوته، وأن لا يستخدموه فى التأويلات الباطلة.
فالجملة الكريمة توبخهم على جعلهم العلم الذى كان من الواجب عليهم أن يستعملوه - فى الحق والخير - وسيلة للاختلاف والابتعاد عن الطريق المستقيم.
وقوله: { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } تذييل قصد به الزجر عن الاختلاف واتباع الباطل.
أى: إن ربك يفصل بين هؤلاء المختلفين، فيجازى أهل الحق بما يستحقونه من ثواب، ويجازى أهل الباطل بما يستحقونه من عقاب.
وبعد هذا الحديث المتنوع عن قصة موسى - عليه السلام - مع فرعون وملئه، ومع قومه بنى إسرائيل، وجه القرآن خطابا إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - تثبيتا لقلبه، وتسلية له عما أصابه من أذى، فقال - تعالى - :
{ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ ٱلَّذِينَ... }