التفاسير

< >
عرض

وَٱلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً
١
فَٱلمُورِيَاتِ قَدْحاً
٢
فَٱلْمُغِيرَاتِ صُبْحاً
٣
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً
٤
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً
٥
إِنَّ ٱلإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ
٦
وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَهِيدٌ
٧
وَإِنَّهُ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ
٨
أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي ٱلْقُبُورِ
٩
وَحُصِّلَ مَا فِي ٱلصُّدُورِ
١٠
إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ
١١
-العاديات

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

العاديات: جمع عادية، اسم فاعل من العدو، وهو المشى السريع، وأصل الياء فى العاديات واو، فلما وقعت متطرفة بعد كسرة قلبت ياء، مثل الغازيات من الغزو.
والضَّبْح: اضطراب النَّفَسِ المتردد فى الحنجرة دون أن يخرج من الفم، والمراد به هنا: صوت أنفاس الخيل عند جريها بسرعة. وقيل: الضج نوع من السير والعدو، يقال: ضَبَحَتْ الخيل، إذا عدَتْ بشدة. وهو مصدر منصوب بفعله المقدر، أى: يضبحن ضبحا، والجملة حال من "العاديات".
والموريات: جمع مُورِيَة، اسم فاعل من الإِيراء، وهو إخراج النار، تقول: أَوْرَى فلان، إذا أخرج النار بزند ونحوه.
والقَدْح: ضَرْب شىءٍ بشىء لكى يخرج من بينهما شرر النار.
والمراد به هنا: النار التى تخرج من أثر احتكاك حوافر الخيل بالحجارة خلال عدوها بسرعة. و { قَدْحاً } منصوب بفعل محذوف، أى: تقدحن قدحا.
و { فَٱلْمُغِيرَاتِ } جمع مغيرة. وفعله أغار، تقول: أغار فلان على فلان، إذا باغته بفعل يؤذيه. و { صبحا } منصوب على الظرفية. وقوله: { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } أى: هيجن وأثرن "النقع" أى: الغبار من شدة الجرى. تقول: أثرت الغبار أثيره، إذا هيجته وحركته. والنون فى "أثرن" ضمير العاديات.
وقوله: { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً } أى: فتوسطن فى ذلك الوقت جموع الأعداء، ففرقنها، ومزقنها، تقول: وسَطْتُ القومَ أسِطُهم وَسْطاً، إذا صرت فى وسطهم.
والمراد بالعاديات، والموريات، والمغيرات: خيل المجاهدين فى سبيل الله، والكلام على حذف الموصوف. والمعنى: وحق الخيل التى يعتلى صهواتها المجاهدون من أجل إعلاء كلمة الله - تعالى -. والتى تجرى بهم فى ساحات القتال، فيسمع صوت أنفاسها، والتى تظهر شرر النار من أثر صك حوافرها بالحجارة وما يشبهها والتى تغير على العدو فى وقت الصباح، فتثير الغبار، وتمزق جموع الأعداء.
وحق هذه الخيل الموصوفة بتلك الصفات.. { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ }.
وقد أقسم - سبحانه - بالخيل المستعملة للجهاد فى سبيله، للتنبيه على فضلها، وفضل ربطها، ولما فيها من المنافع الدينية والدنيوية، ولما يترتب على استعمالها فى تلك الأغراض من أجر وغنيمة، ومن ترويع لجموع المشركين، وتمزيق لصفوفهم.
وأسند - سبحانه - الإِغارة إليها - مع أنها فى الحقيقة لراكبيها -، لأن الخيول هى عدة الإِغارة، وهى على رأس الوسائل لبلوغ النصر على الأعداء.
وقيل: المراد بالعاديات: الإِبل، إلا أن الأوصاف المذكورة فى الآيات الكريمة من الضج والإِغارة.. تؤيد أن المراد بها الخيل.
قال صاحب الكشاف: أقسم - سبحانه - بخيل الغزاة تعدو فتضبح. والضبح: صوت أنفاسها إذا عدون.
فإن قلت: علام عطف "فأثرن"؟ قلت: على الفعل الذى وضع اسم الفاعل موضعه، وهو قوله { فَٱلْمُغِيرَاتِ صُبْحاً } وذلك لصحة عطف الفعل على الاسم الذى يشبه الفعل كاسم الفاعل - لأن المعنى: واللائى عدون، فأورين، فأغرن. فأثرن الغبار.
والتعبير بالفاء فى قوله - تعالى -: { فَأَثَرْنَ } { فَوَسَطْنَ }. وبالفعل الماضى، للإِشارة إلى أن إثارة الغبار، وتمزيق صفوف الأعداء، قد تحقق بسرعة، وأن الظفر بالمطلوب قد تم على أحسن الوجوه.
وقوله - سبحانه -: { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ } جواب القسم. والكنود: الجحود، يقال: فلان كند النعمة - من باب دخل -، إذا جحدها ولم يشكر الله عليها. وكند الحبل: أى قطعه، وأصل الكنود: الأرض التى لا تنبت شيئا، فشبه بها الإِنسان الذى يمنع الحق والخير، ويجحد ما عليه من حقوق وواجبات.
أى: إن فى طبع الإِنسان - إلا من عصمه الله - تعالى - الكنود لربه والكفران لنعمته، والنسيان لمننه وإحسانه، والغفلة عن المواظبة على شكره - تعالى -، والتضرع إليه - سبحانه - عند الشدائد والضراء.. والتشاغل عن ذلك عند العافية والرخاء.
فالمراد بالإِنسان هنا: جنسه، إذ أن هذه الصفة غالبة على طبع الإِنسان بنسب متفاوتة، ولا يسلم منها إلا من عصمه الله - تعالى -.
وقيل: المراد بالإِنسان هنا: الكافر، وأن المقصود به، الوليد بن المغيرة.
والأولى أن يكون المراد به الجنس، ويدخل فيه الكافر دخولا أوليا.
وقوله - تعالى -: { وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } أى: وإن الإِنسان على كنوده وجحوده لنعم ربه "لشهيد" أى: لشاهد على نفسه بذلك، لظهور أثر هذه الصفة عليه ظهروا واضحا، إذ هو عند لجاجه فى الطغيان يجحد الجلى من النعم، ويعبد من دون خالقه أصناما، مع أنه إذا سئل عن خالقه اعترف وأقر بأن خالقه هو الله - تعالى -، كما قال - سبحانه -:
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } قال الإِمام الشيخ محمد عبده: قوله: { وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } أى: وإن الإِنسان لشهيد على كنوده، وكفره لنعمة ربه، لأنه يفخر بالقسوة على من دونه، وبقوة الحيلة على من فوقه، وبكثرة ما فى يده من المال مع الحذق فى تحصيله، وقلما يفتخر بالمرحمة، وبكثرة البذل - اللهم إلا أن يريد غشا للسامع - وفى ذلك كله شهادة على نفسه بالكنود، لأن ما يفتخر به ليس من حق شكر النعمة، بل من آيات كفرها.
ومنهم من يرى أن الضمير فى قوله - تعالى - هنا { وإنه } يعود على الخالق - سبحانه - أى: وإن الله - تعالى - لعليم ولشهيد على ما يسلكه هذا الإِنسان من جحود، فيكون المقصود من الآية الكريمة، التهديد والوعيد.
قالوا: والأول أولى، لأنه هو الذى يتسق مع سياق الآيات، ومع اتحاد الضمائر فيها.
وقوله - تعالى -: { وَإِنَّهُ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } أى: وإن هذا الإِنسان لشديد الحب لجمع المال، ولكسبه من مختلف الوجوه بدون تفرقة - فى كثير من الأحيان - بين الحلال والحرام، ولكنزه والتكثر منه، وبالبخل به على من يستحقه.
وصدق الله إذ يقول:
{ قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ ٱلإِنْفَاقِ وَكَانَ ٱلإنْسَانُ قَتُوراً } وقوله - تعالى -: { أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي ٱلْقُبُورِ. وَحُصِّلَ مَا فِي ٱلصُّدُورِ. إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ } تهديد لهذا الإِنسان الكنود.. وتحريض له على التفكر والاعتبار، وتذكير له بأهوال يوم القيامة.
أى: أيفعل ما يفعل هذا الإِنسان الجحود لنعم ربه.. فلا يعلم مآله وعاقبته { إِذَا بُعْثِرَ }. أى: إذا أثير وأخرج وقلب رأسا على عقب { مَا فِي ٱلْقُبُورِ } من أموات حيث أعاد - سبحانه - إليهم الحياة، وبعثهم للحساب والجزاء، كما قال - تعالى -:
{ وَإِذَا ٱلْقُبُورُ بُعْثِرَتْ } أى: أثيرت وأخرج ما فيها. يقال: بعثر فلان متاعه، إذا جعل أسفله أعلاه.
{ وَحُصِّلَ مَا فِي ٱلصُّدُورِ } أى: وجمع ما فى القلوب من خير وشر وأظهر ما كانت تخفيه، وأبرز ما كان مستورا فيها، بحيث لا يبقى لها سبيل إلى الإِخفاء أو الكتمان.
وأصل التحصيل: إخراج اللب من القشر، والمراد به هنا: إظهار وإبراز ما كانت تخفيه الصدور، والمجازاة على ذلك. ومفعول { يعلم } محذوف، لتذهب النفس فيه كل مذهب ويجول الفكر فى استحضاره وتقديره.
وقوله - تعالى -: { إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ } جملة مستأنفة لزيادة التهديد ووالوعيد.
أى: إن رب المبعوثين للحساب والجزاء، ليعلم علما تاما ً بأحوالهم الظاهرة والباطنة، فى ذلك اليوم الهائل الشديد الذى يبعث فيه الناس من قبورهم، وسيجازى - سبحانه - الذين أساؤوا بما عملوا، وسيجازى الذين أحسنوا بالحسنى.
نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا من أهل طاعته ومثوبته.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.