التفاسير

< >
عرض

أَلْهَاكُمُ ٱلتَّكَّاثُرُ
١
حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ
٢
كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ
٣
ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ
٤
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ
٥
لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ
٦
ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ
٧
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ
٨
-التكاثر

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله - سبحانه -: { أَلْهَاكُمُ } من اللهو وهو الغفلة عن مواطن الخير، والانشغال عما هو نافع.
والتكاثر: التبارى والتباهى بالكثرة فى شئ مرغوب فيه كالمال والجاه..
أى: شغلكم - أيها الناس - التباهى والتفاخر بكثرة الأموال والأولاد والعشيرة، كما ألهاكم حب الدنيا عن القيام بما كلفناكم به..
{ حَتَّىٰ زُرْتُمُ ٱلْمَقَابِرَ } أى: بقيتم على هذه الحال، حتى أتاكم الموت، ودفنتم فى قبوركم، وانصرف عنكم أحب الناس إليكم، وبقيتم وحدكم.
والخطاب عام لكل عاقل، ويدخل فيه المشركون والفاسقون، الذين آثروا الدنيا على الآخرة دخولا أوليا.
فالمراد بزيارة المقابر: انتهاء الآجال، والدفن فى القبور بعد الموت. وعبر - سبحانه - عن ذلك بالزيارة. لأن الميت يأتى إلى القبر كالزائر له، ثم بعد ذلك يخرج منه يوم البعث والنشور، للحساب والجزاء، فوجوده فى القبر إنما هو وجود مؤقت بوقت يعلمه الله - تعالى -.
وقد روى أن أعرابيا عندما سمع هذه الآية قال: بعثوا ورب الكعبة، فقيل له كيف ذلك؟ فقال: لأن الزائر لابد أن يرتحل.
وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن التهالك على حطام الدنيا، فى أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلم فى صحيحه
" عن عبد الله بن الشَّخِّير قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ألهاكم التكاثر قال: يقول ابن آدم مالى مالى، وهل لك من مالك يابن آدم إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت" .
وقوله - تعالى -: { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } ردع وزجر عن الانشغال عن طاعة الله، وعن التكاثر بالأموال والأولاد.
وكرر لفظ "كلا" ثلاث مرات فى هذه السورة، لتأكيد هذا الزجر والردع عن كل ما يشغل الإِنسان عن وجوه الخير والبر.
والتبعير بقوله: { سَوْفَ } لزيادة الزجر، ولتحقيق حصول العلم، وحذف مفعول { تَعْلَمُونَ } لظهوره من المقام. أى: اتركوا التشاغل بالدنيا والتفاخر بالأموال، فإنكم إن بقيتم على ذلك بدون توبة صادقة، فسوف تعرفون سوء عاقبة ذلك معرفة لا يخامرها شك، ولا يفارقها ريب.
وجملة { ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } مؤكدة تأكيدا لفظيا للجملة التى قبلها، وهذا التأكيد المقصود منه المبالغة فى الردع والزجر والتحذير من التكاثر والتفاخر..
ثم أضاف - سبحانه - إلى كل ما سبق من تحذيرات، زواجر أخرى فقال: { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ ٱلْيَقِينِ. لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ. ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ }..
وجواب "لو" محذوف لقصد التهويل، و "اليقين" فعيل بمعنى مفعول، وعلم اليقين هو العلم الجازم المطابق للواقع الذى لا شك فيه. والإِضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة، أو من إضافة العام إلى الخاص.
أى: لو تعلمون - علما موثوقا به - سوء عاقبة انشغالكم عن ذكر الله - تعالى - وتكاثركم وتفاخركم بالأموال والأولاد.. لشغلكم هذا العلم اليقينى عما أنتم عليه من التشاغل والتكاثر.
فالمقصود بهذه الجملة الكريمة: الزيادة فى ردعهم، لأنه من عادة الغافلين المكابرين. أنك إذا ذكرتهم بالحق وبالرشاد.. زعموا أنهم ليسوا فى حاجة إلى هذا الارشاد، لأنهم أهل علم ومعرفة بالعواقب، فكانت هذه الآية الكريمة بمثابة تنبيههم بأنهم ليسوا على شئ من العلم الصحيح، لأنهم لو كانوا كذلك لما تفاخروا، ولما تكاثروا.
وقوله - سبحانه -: { لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ } جواب قسم مقدر، قصد به تأكيد الوعيد الشديد فى التهديد، وبيان أن المهدد به رؤية الجحيم فى الآخرة، أى: والله لترون الجحيم فى الآخرة.
ثم أكد - سبحانه - هذا المعنى تأكيدا قويا فقال: { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } أى: ثم لترون الجحيم رؤية هى ذات اليقين ونفسه وعينه، وذلك بأن تشاهدوها مشاهدة حقيقية، بحيث لا يلتبس عليكم أمرها.
وقد قالوا إن مراتب العلم ثلاثة: علم اليقين وهو ما كان ناتجا عن الأدلة والبراهين.
وعين اليقين: وهو ما كان عن مشاهدة وانكشاف.
وحق اليقين: وهو ما كان عن ملابسة ومخالطة.
ومثال ذلك أن تعلم بالأدلة أن الكعبة موجودة، فذلك علم اليقين، فإذا رأيتها بعينيك فذلك عين اليقين، فإذا ما دخلت فى جوفها فذلك حق اليقين..
فأنت ترى أنه - سبحانه - قد حذر الناس من الاشتغال عن طاعته، ومن التباهى والتكاثر، بأبلغ أساليب التأكيد وأقواها.
ثم ختم - سبحانه - السورة بقوله: { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ }، والمراد بالنعيم هنا: ما يتنعم به الإِنسان خلال حياته الدنيوية من مال وولد، ومن طعام وشراب، ومن متعة وشهوة.. من النعومة التى هى ضد الخشونة.
أى: ثم إنكم بعد ذلك - أيها الناس - والله لتسألن يوم القيامة عن ألوان النعم التى منحكم الله - تعالى - إياها، فمن أدى ما يجب عليه نحوها من شكر الله - تعالى - عليها كان من السعداء، ومن جحدها وغمطها وشغلته عن طاعة ربه، وتباهى وتفاخر بها.. كان من الأشقياء، كما قال - تعالى -:
{ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } فالمراد بالسؤال إنما هو سؤال التكريم والتبشير للمؤمنين الشاكرين، وسؤال الإِهانة والتوبيخ للفاسقين الجاحدين.
والآية الكريمة دعوة حارة للناس، إلى شكر نعمه - تعالى - واستعمالها فيما خلقت له.
قال القرطبى ما ملخصه: والسؤال يكون للمؤمن والكافر.. والجمع بين الأخبار التى وردت فى ذلك: أن الكل يسألون، ولكن سؤال الكافر توبيخ، لأنه قد ترك الشكر، وسؤال المؤمن سؤال تشريف، لأنه قد شكر، وهذا النعيم فى كل نعمة..
نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا من عباده الشاكرين..
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.